العام الدولي للتسامح
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ؛ عباد الله اتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيءٍ عليم أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من هديه قوله في الحديث الصحيح : (شهدت حلف المُطَّيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أُحِبُّ أنّ لي حُمُرَ النَّعَم وأني أنكثه)1. هذا الحلف سميَّ بحلف الفُضول وهو تحالفٌ على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم ورد الفُضول إلى أهلها ، وذكر ابن إسحاق أن رسول الله كان وقتها في العشرين من عمره ، ولهذا الحديث دلالات منها أن العدل قيمة مطلقة ينبغي على المسلم أن يساندها كائنة ما كانت الجهة التي تدعو إليها ، والقيم الفطرية كدفع الظلم وإقرار الحقوق وإرساء العدل والإنصاف قيمُ تحثُ الشريعة على إقامتها والحفاظ عليها حتى لو صدرت الدعوة إليها من أهل الجاهلية كما في حلف الفضول.
أحد الأمور السارة أن الأمم المتحدة قد أعلنت عن هذا العام عاماً دولياً للتسامح وهذا أمرُ طيب لا يسعنا الإحجام عن المشاركة فيه ، ولكن المحزن أن هذه الهيئات الدولية لا يكون لها مواقف حازمة عندما يكون الدم المسفوك هو الدم الإسلامي2 و لا تستنفر كل طاقاتها عندما تكون الأرض المسلمة هي الأرض المعتدى عليها ؛ بل لعلها تتفرج إن لم تمرر كثيراً من المظالم مثل سكوتها المخزي عن مذابح المسلمين في البوسنة و مأساةِ شعب فلسطين و قصف و تدمير غروزني عاصمة الشاشان3.
إن التسامح يُطلب من طرفٍ صاحبِ حقٍ ليتغاضى عن حقه قليلاً ؛ أما أن يُطلب من أمم مستباحة وبلاد مدمرة و شعوب مستضعفة فهذا مما لا تفهمه العقول ؛ ورغم ذلك نقول: إن التسامح قيمة إيمانية وإنسانية عظيمة ، وحتى لو لم تكن المجتمعات المنحرفة والأنظمة العالمية تعطيها حقها فإن الإسلام يبقى دائماً و أبداً دين العقيدة السمحة و العدلِ الشامل4.
يقول تعالى: (وما خلقنا السماواتِ والأرضَ وما بينهما إلا بالحقِِ وإن الساعة لآتيةٌ فاصفَح الصفح الجميل)5 أي وما خلقنا السماواتِ و الأرضَ إلا خلقاً مُتلبساً بالحق والحكمة الثابتة التي لا تقبل التغيير وهي الاستدلال إلى الصانع و صفاته و أسمائه و أفعاله ليعرفوه فيعبدوه ؛ بحيث لا يلائم استمرارُ الفسادِ ؛ لذلك اقتضت الحكمة إرسالَ الرسلِ و إن الساعة لآتية فيجزي كلاً بما كانوا يعملون ؛ (فاصفح الصفح الجميل) أي عاملهم معاملة الصفح الحكيم ، ولما صَبَّر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على أذى قومه و أمره بالصفح الجميل اتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خصه بها ؛ لأن الإنسان إذا تذكر كثرةَ نِعَمِ الله عليه سهل عليه الصفح و التجاوز فقال تعالى مذكراً بنعمه : (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني و القرآن العظيم)6 فيا أمة محمدٍ صلى الله على محمد وآل محمد: أبعدَ نعمةِ الإيمان و نعمةِ القرآن يكون دأبكم في أمور صغيرة! والله ما هذا شأنكم ، بل أنتم أتباع رسولٌ آذاه قومه وعذبوه وأخرجوه ؛ فلما أقدره الله عليهم دخل ظافراً منتصراً وكله تواضعٌ لله وكان في وسعه أن يُبيدَ كل من عاداه ولكن نقلت عن كتب السيرة أنه قال : (ما تظنون أني فاعل بكم فقالوا : خيراً أخٌ كريم و ابن أخ كريم فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم)7 واختار رسول الله أن يعفو عنهم ويصبر على ما كان منهم ويدع عقوبتهم تفضلاً منه و احتساباً فقال: (نصبر و لا نعاقب)8 ، وذلك بعد أن نزل قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين) 9 و أتت بقيةُ الآياتِ لتبني أمورَ الإيمان العظيم لكل أمةِ محمد صلى الله عليه و آله وسلم: (و اصبِر و ما صبركَ إلا بالله و لا تحزَنْ عليهم و لا تَكُ في ضَيْقٍ مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون)10 فإن من يكون اللهُ تعالى هو كافيه و ناصرهُ و مؤيده لا تَشْغَلُهُ هموم الانتصار للنفس و لو كان على حق ، و قد انعكست هذه الآفاق القرآنيةُ السامية و تحولت إلى تَرْجماتٍ عمليةٍ شهدت بها الدنيا لأمة لا إله إلا الله فانساحت في الأرض ففتحتها فأقامت العدل و حفظت الحقوق واحترمت عقائد المخالفين وما يستطيع أحد أن يأتي بشاهد يتيم ٍ واحدٍ إلى أن فتوحاتِ المسلمين قد أبادت شعباً أو محت أمة أو اضطهدت عقيدةَ مخالف على ظهر الأرض بل عاشت شعوب الأرض بكل أديانها و عقائدها و أفكارها و عاداتها في ظل سماحة الإسلام .. وأكبر دليل على ذلك ما نلمسه حتى اليوم من بقاء عشرات الطوائف و الفرق و المذاهب بين ظهراني المسلمين! فكيف بَقَوا لولا تسامُحُ المسلمين ؛ حتى أرقى الأمم عندما تحارب فإنها تنتهك كثيراً من القوانين الإنسانية بل هي تزحف كالجراد لا تدع أخضراً