الأسرة وحماية البيئة
الحمد لله (إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون)1، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً)2 ، ونشهد أن سيدنا محمداً عبد الله و رسوله (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيراً)3.
يا أيها الناس اتقوا ربكم (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)4.
أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله و سلم و إن من هدي نبيكم قوله في الحديث الصحيح : (كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته و الأمير راع و الرجل راع على أهل بيته و المرأة راعية على بيت زوجها وولده فكلكم راعٍ و كلكم مسؤول عن رعيته)5 وموضوع الرعاية و المسؤولية أمر خطير يحتاج إلى فقه شموليٍ واسع وكما أن المؤسسات الناجحة لا تقوم إلا على تخطيط سليم و إدارة ذكية فكذلك الأسرة لا يمكن أن تقوم ببعدها الصالح إلا بإدارة ناجحة و آفاق تربوية سليمة .
الذي يلفت النظر أنه ليس كل من أنشأ أسرة يكون ناجحاً في إضفاء التوازن و الاستقرار عليها ، و بالتالي فإن أكبر مصيبة قد يكون سببها إهمال صغير في رعاية أُولى قفزت فوق اللوازم التربوية .
إن الحديث الصحيح الذي يقول: (مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى)6 هذا الحديث توجد غيبوبة عن إدراك آثاره . و التصدعات و النزوفات الدامية في المجتمع إنما تبدأ من خلل أسروي مبكر و في الحديث الصحيح أن الحسن بن علي رضي الله عنهما أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم (كُخ كُخ ارم بها أما علمت أنَّا لا تحل لنا الصدقة)7 (و كُخ كلمة زجر للصبي عن المستقذرات). وعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال : كنت غلاماً في حِجر رسول الله صلى الله عليه و سلم (أي في عهدته وتحت رعايته) و كانت يدي تطيش في الصحيفة فقال لي عليه الصلاة و السلام : (يا غلام سمِّ الله تعالى و كل بيمينك و كل مما يليك فما زالت تلك طِعمتي بعد)8.
إن البصمات التربوية الأولى تزرع بصمات عميقة في النفس البشرية و بالتالي فإن آثارها تنعكس لاحقاً فتكون خيراً أو شراً ، و كما اعتاد الناس الغافلون أن يقولوا لشاب أو فتاة يلتزمان بالدين باكراً: حرام عليك أن تذهب شبابك الآن و معك وقت ، وعندما تصبح عجوزاً فعندها لا تترك من أمور العبادة شيئاً ؛ فإن كثيرين من الناس أيضا يظنون أن أطفالهم الصغار قد لا يتأثرون و هناك وقت لاحق للتربية و هذا وهم شديد فالنبي عليه الصلاة و السلام لفت أنظارنا في أحاديث كثيرة إلى أهمية البناء المبكر كالحديثين اللذين ذكرناهما و حديث: (يا غلام إني أعلمك كلمات.. )9 ، وحديث: (يا أبا عمير.. )10 و غيرهما ، لما في الزرع الأول من خصوبة اجتماعية و نفسية و إيمانية ، و قد لاحظنا أن الإنسان الذي يلتزم بالدين مثلاً في آخر حياته تبقى في حياته ثغراتٌ ملحوظة .. إذ أنَّ يد التربية لا تطال كل زاوية من زوايا النفس البشرية الشائكة ، و ربما حاص حيصة تتطاير معها مسلمات إيمانية واضحة و كذلك من ربى طفلاً على الاستقامة و التقوى ؛ على الحياء و الدين ؛ على النظافة و الذوق .. على الرقي والحضارة .. الثبات و الإيمان .. فإن كل ذلك ينغرس و تتشربه النفس في أدق منعطفاتها و مساربها الظاهرة و الخفية ، وقد ذكروا أن مالك بن نبي رحمه الله أتي بطفل رضيع لأحد تلامذته وطلب منه التلميذ تأدباً أن يشمله برعايته فقال له: أجئتني به الآن بعد أن أصبح كبيراً ؛ أراد لفت نظره إلى أن البداية مهمة جداً من اليوم الأول . ومن الملفت للنظر أن بعض الطباع النفسية للطفل تتأثر بسلوك و مزاج أمه في فترة الحمل فتبارك الله أحسن الخالقين. كم هي التربية عملية واسعة شاملة مستمرة دقيقة و الخسارة الهائلة التي تحصل في فوات فقه الحديث الصحيح: (مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى)11 إنما سببها البدايات التربوية الأولى ، ونحن نتكلم كثيراً عن الإيجابيات و لكن كثيراً منها مفقود من الناحية العملية.
الجسد الواحد الذي تنهشه الذئاب سيموت ، وكم تنهش النميمة و الكذب و الغيبة فينا؟ (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)12 ، والأمور الجماعية في الحياة كيف تقوم إذا كانت الأنانية الطاغية هي التي يربى الطفل عليها منذ نعومة أظفاره ، و تثبيت الحقوق في الحياة ، وكف يد كل ظالم ، كيف يتحقق إذا احتاجت هذه الأمور إلى إرادة جماعية و كل فرد يرضع الغَنَمِيَّة و التَأَرْنُب و الخضوع من بداياته الأولى .
عبد الله بن الزبير من الشجعان المعدودين في تاريخ الإسلام .. تلك الشجاعة لم تأت بلحظة إنما هي محصلة تربوية .. و قد ذكرت السير أنه كان صبياً صغيراً يلعب مع أقرانه عندما مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففر الصبيان ووقف عبد الله في الطريق لا يبالي فقال عمر : لِمَ لَمْ تهرب كما هرب الصبيان ؛ فقال رضي الله عنه : لم أرتكب ما أعاتب عليه فأخافك و لم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك.
أتاني طفل صغير في الصف الخامس باكياً و قال أن الطلاب يضربونه في المدرسة دائماً! فسألته و هل تؤذيهم بشيء حتى يضربوك؟ فقال لا و لكنهم يضربونني لأنني لا أرد عليهم! فقلت: ولماذا لا تدافع عن نفسك؟ قال: إن أمي تطلب مني الانسحاب دائماً ؛ وقد شعرت أن أمه تبني في نفسه الجبن و روح الانهزام و تدلـله بما سيقتله و يحطم شخصيته ، وكانت تعلل تصرفاتها بأنه حرام أن يؤذيهم! وعجيب هذا المنطق ، فأن يؤذي الإنسان الآخرين فهذا حرام ؛ ولكن أن يسمح لهم باجتياحه و أذاه و ضربه و يكون صده لذلك حراماً فهذا خلاف المنطق و الواقع و الشرع! وفي الحديث الشريف أن رجلاً قال: (يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي! قال: فلا تعطه مالك ؛ قال :أرأيت إن قاتلني؟ قال :قاتله ؛ قال: أرأيت إن قتلني! قال :فأنت شهيد ؛ قال: أرأيت إن قتلته ؛ قال: هو في النار)13.
و ليس المقصود بحال البدء بالظلم و لا اشتهاء القتال و لا إثارة المشاكل و لكن المقصود هو الثبات على المبدأ و بناء النفس التي لا تطيق الظلم و التي تستشهد في سبيل حفظ حقوقها. و ذكرنا مرة قصة رجل ذهب إلى بلد نظام السير فيه آية بديعة من التناسق ؛ فلا مواطن يخالف و لا شرطي يرتشي ولا إشارة مرور حن عليها مراهق فعانقها بسيارة ليست من ماله و لا من مال أبيه ثم غادرها و قد