الحب في القرآن الكريم
لعل البعض يعجب من عنوان كهذا .. فكيف يكون الحب في القرآن !! وما هو كنهه؟ وما هي أنواعه ..؟
وربما ينسى البعض أن الإسلام هو دين الحب ، وأن المؤمن لا يجد حلاوة الإيمان إلا إذا أحس بحرارة الحب في قلبه . وقد أمرنا ديننا بالحب ، ودعانا إليه ...
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا آل بيتي لحبي " رواه الترمذي .
وعن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله ؟ قال : وماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله. قال : "أنت مع من أحببت". رواه البخاري. يقول أنس – رضي الله عنه - فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت ، فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم .
وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم.قال : " المرء مع من أحب"
والإيمان في الإسلام قائم على المحبة ، ومؤسس على المودة .. يقول عليه الصلاة والسلام: " والذي نفسي بيده ، لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولن تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم : أفشوا السلام بينكم " . رواه أبو داوود .
فجعل الفوز بالجنة مرتبطا بالإيمان ، وجعل الإيمان متوقفا على المحبة والمودة .
فأحبب الخير لغيرك ، فإن ذلك من كمال الإيمان . يقول عليه الصلاة والسلام : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه – أو قال لجاره - ما يحب لنفسه " رواه مسلم .
حب الله تعالى للعبد :
والله جل في علاه يحب من أحب دينه واتبع ملته وشريعته .. يحب ربي من أخلص له وأناب إليه ، ولاذ إلى رحابه . يحب من يتسامى في حبه ، ويجاهد في سبيله لنصرة دينه . قال الله تعالى : " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ " "الصف 4" .
والله تعالى يحب التوابين ، فتب إلى الله تكن حبيباً لله . قال الله تعالى في محكم كتابه : " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " "البقرة 222".
يقول الدكتور موسى بن الشريف : إننا نخطئ في حق الله تعالى ، ونقع في وحل المعصية ، وبحر الشهوات ، ونتلطخ بأدران الإثم .. ثم يصحو الضمير ويستيقظ ، وتطارد الخطيئة المذنب .. ويحس بثقلها على نفسه كأنها الجبل ، ويتجسم أمام عينيه فظاعة ما ارتكب في حق الله تعالى فتضيق الأرض بما رحبت ، فلا يلجأ إلا إلى الله تعالى ، ففراره من الله إلى الله تعالى.. إليه الملجأ وإليه المآل . قال الله تعالى : " وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" "آل عمران135 ".
والتوبة رجوع إلى الله وما أحلى الرجوع إليه...
وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : " لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا لي . هذه إرادتي في المدبرين عني ، فكيف إرادتي في المقبلين علي يا داود . أرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني ، وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي" .
والله تعالى يلقي محبته على من يحبه ، وأي منزلة أعلى ، بل وأي درجة أكمل من أن يقول الله تعالى لعبده : " وألقيت عليك محبة مني " .. فمحبة الله تعالى العزيز المتعال ، وهو في عليائه وكبريائه ، للعبد وهو في ذلّه وضعفه هو العطاء عينه ، وهي النعمة والمنة من الله تعالى ذي الكرم والجود .. قال الله تعالى :" قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ " "يونس 58 ".
والمؤمنون يحبون :
ومحبتهم هي الأقوى لله تعالى مصداقا لقوله تعالى " وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ " ."البقرة 165" .
والحب تقرب وعطاء .. تقرب من المحب ، وعطاء من المحبوب . يقول الله تعالى في الحديث القدسي : " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه " . رواه البخاري .
أحبب الله :
أحبب الله فنحن مأمورون بحب الله. يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : " أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه " . وهل هناك غير الله تعالى أحق بالحب ؟ ، وهو الخالق البارئ ، الذي خلقك أيها الإنسان فصوَرك وركَبك .. المنعم عليك بجميع النعم صغيرها وكبيرها !!
يقول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله :
" من أنست نفسه بالله لم يجد لذة في الأنس بغيره ...
ومن أشرق قلبه بالنور لم يعد فيه متسع للظلام ...
ومن سمت روحه بالتقوى لم يرض إلا سكنى السماء...
ومن أحب معالي الأمور لم يجد مستقرا إلا الجنة ...
ومن أحب العظماء لم يقنعه إلا أن يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم...
ومن أدرك أسرار الحياة لم ير جديرا بالحب حق الحب إلا الله تبارك وتعالى".
ولا تجعلن محبة غير الله تعالى فوق محبة الله . فالله تعالى يتوعد من شغلته محبة غيره عن محبته جل في علاه . قال الله تعالى :" قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" " التوبة 24.
يقول ابن القيم – رحمه الله – في مدارج السالكين : " وأصل العبادة محبة الله ، بل إفراده بالمحبة ، وأن يكون الحب كله لله ، فلا يحب معه سواه ، وإنما يحب لأجله وفيه " . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في رسالته "العبودية : " إن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له ، فإن آخر مراتب الحب هو التتيم ، وأوله العلاقة ، لتعلق القلب بالمحبوب ، ثم الصبابة ( لانصباب القلب إليه ) ، ثم الغرام ، وهو الحب الملازم للقلب ، ثم العشق ، وآخرها : التتيم ، يقال : تيْم الله أي : عبد الله .فالمتيَم : هو المعبَد لمحبوبه " .
والمحب يطيع من أحب ، وينفذ أوامره في سعادة وسرور .. يقول ابن المبارك :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صــادقا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطـيع
وهكذا يكون طريق المحبة : أوله أمر إلهي .. وآخره طاعة لله تعالى واستجابة لأمره.
لماذا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لأنه حبيب الله تعالى وخليله ، وأحب خلق الله إلى الله .
ولأن الله تعالى أدبه .. فأحسن تأديبه ..
ولأن الله تعالى علَمه ، فجَمل علمه بالخلق العظيم (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) النساء 113
ولأن الله تعالى اصطفاه على الناس برسالته الخالدة ، وبعثه للناس رحمة للعالمين .
ولأن مبعثه للناس نعمة ومنَة(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)آل عمران164.
ولأنه صاحب الحوض المورود ، والشفاعة العظمى ، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) التوبة 128 .
ولأن الله تعالى وملائكته يصلون على النبي (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) الأحزاب 56 .
ولأن اتباع الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم هو الطريق والسبيل إلى محبة الله تعالى لقول ربي جل في علاه : " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ " آل عمران 31.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية : " إن هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله تعالى وليس هو على الطريقة المحمدية ، فإنه كاذب في نفس الأمر ، حتى يتبع الشرع المحمدي في جميع أقواله وأفعاله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " . ولهذا قال الله تعالى : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " . أي تنالون فوق ما طلبتم من محبتكم إياه ، وهو محبته إياكم ، وهو أعظم من الأول كما قال بعض الحكماء : " ليس الشأن أن تحِب .. إنما الشأن ُتحب " .
ولا شك أن حب سنة النبي صلى الله عليه وسلم من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورد في الأثر : " من أحب سنتي فقد أحبني ، ومن أحبني كان معي في الجنة " .
حب وميول غريزية :
تناول القرآن الكريم مسألة الميول الغريزية عند الإنسان فقد جاء في سورة آل عمران قوله تعالى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ( آل عمران14)..
ومما يميل إليه الإنسان ويحبه حب النساء: ويمكن أن يكون مشروعاً كحب الرجل لزوجته أو محرماً كحب الرجل للمرأة الأجنبية عنه.
وحب البنين: وقد يكون مذموما إذا كان غريزة ُقصد بها المفاخرة ، أو محمودا إذا قصد تكوين أسرة مسلمة تنشأ في طاعة الله .
وحب المال من الذهب والفضة: وقد أشار القرآن الكريم إلى حب امتلاك المال الكثير، وسواء كان سعي المؤمن لإنفاقه في سبيل الله أو كان مقصده العبث به فكلاهما مما يشتهيه الإنسان ويحبه.
وحب الخيل المسومة: والقرآن ذكر الخيل لأنها مركوب تلك الأيام ولكن الأمر يتعداه إلى مراكب الناس في هذه الأيام .
مقامات الحب :
من عرف الله تعالى أحب الله ، وعلى قدر معرفته بالله ، يكون حبه لله . ولهذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس حبا لله ، لأنه كان أعرفهم بالله . يقول عليه الصلاة والسلام : " أنا أعلمكم بالله "رواه البخاري .
وهل المحبة إلا ثمرة المعرفة ؟ يقول الحسن البصري :
" من عرف ربه أحبه .. ومن عرف الدنيا زهد فيها .. وكيف ُيتصور أن يحب الإنسان نفسه ، ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه " .
والله تعالى يحب .. ومن أحبه الله كان مع الله .. في معيته وتحت حفظه وعنايته جل في علاه . قال الله : " إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ " النحل 128
ومعية الله تعالى لمن يحب هي معية خاصة يخص بها أحباءه وأولياءه .. معية نصر وتكريم .. وعناية ورعاية .. فضلا عن المعية العامة التي هي معية العلم المحيط الشامل .. ففي الحديث القدسي : " أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني " .
والله تعالى يحب ومن أسمائه : " الودود " .. وقد ذكر لفظ : " الودود " في القرآن الكريم مرتين: في سورة هود حيث يقول تعالى : " وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ " هود 90، وفي سورة البروج حيث يقول سبحانه وتعالى : " وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ "البروج14 . والود : الحب ، ومعنى الودود : المحب للمؤمنين ( الذي يودَهم ويودونه ، ويحبهم ويحبونه ) .
فانظر في نفسك .. هل يحبك الناس أم هم لك كارهون .. ؟
هل يحبك من حولك .. ويفرح بلقائك ؟
تأكد من حب الناس لك حبا خالصا لله تعالى لا حبا من أجل مال أو متاع ، ولا مراءة أو مداهنة ..
يروى أن الله تعالى قال لداود عليه السلام : " يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني ، وجليس لمن جالسني .. ومؤنس لمن أنس بذكري .. ما أحبني عبد من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي " ..
فكن حبيبا لله تعالى .. تكن حبيباً لمن في الأرض والسماء .