فقه المقاومة بين العقل الظاهر والباطن

فقه المقاومة بين العقل الظاهر والباطن

الحمد لله حمد الشاكرين ، ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله ؛ أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلامه تعالى قولَه : (أومن كان مَيتاً فأحييناهُ وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثلُهُ في الظلماتِ ليس بخارج منها كذلك زُيِّنَ للكافرين ما كانوا يعملون)1.

الجاهل ميت القلب والروح وإن كان حيَّ البدن ، جسده قبر يمشي به على وجه الأرض (وما يستوي الأحياء و لا الأموات إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بمُسمعٍ من في القبور)2

ذكر الإمام أحمد من كلام لقمان أنه قال لابنه (يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل المطر) وفي حديث الطبراني وابن عبد البَّر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ؛ لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار سُبل أهل الجنة ، وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمُحَدِّثُ في الخلوة ، والدليل على السراء والضراء ، والسلاح على الأعداء والزينُ عند الأخلاء ، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدى بأفعالهم ويُنتهى إلى رأيهم ، ترغب الملائكة في خُلَّتهم ؛ بأجنحتها تمسحهم ؛ يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامُّه ، وسباع البر وأنعامه ؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل ، ومصابيح الأبصار من الظُلَم ، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدينا والآخرة ؛ التفكر فيه يعدل الصيام ، ومدارسته تعدل القيام ؛ به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام وهو إمام العمل ، والعمل تابع له ، يُلهَمُه السعداء ويحرمه الأشقياء). قال الإمام ابن القيم : روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوقف أصح.

وفي الجهل قبل الموت موتٌ لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور

فأرواحهم في وَحْشَةٍ من جسومهم فليس لهم حتى النشور نشور

من جهل شيئاً عاداه ومن غفل عن شيء أرداه.

وبين الأسرة المسلمة في البيت الصغير والأسرة المسلمة في الامتداد الإسلامي الكبير نتردد ونسمع غياب الفقه فَنُسْـتنْفَرُ للإصلاح بين الزوجين ، ونسمع أنين الجسد الإسلامي الواحد فَنُسْتَنْفَرُ للتوعية والبيان.

وفي كلا الحالين فغياب العلم الصحيح مأساة قاتلة ، ومن لم يدرك مغزى كلامنا في الأسبوع الماضي عن المدارس المحطمة للإسلام ؛ نزيده اليوم إيضاحاً فإن عقل المؤمن وفكره وروحه وقلبه إنما تندغم معاً وتتشابك تشابك الروح مع الجسد ؛ فإذا وُجدت مدارس سواءٌ على مستوى الأسرة الصغيرة أو الأسرة الإسلامية الكبيرة تنتزع جانباً تركز عليه ولا تعبأ بسواه ولا تراه ، فما الحال إلا كفلسفات الغارقين في عالم الأرواح الناسين أن مع الروح جسداً ، أو الغارقين في لذات الجسد ناسين الروح المعجز.

وكما أن جسم الإنسان لا يكون سوياً إلا باكتمال كل العناصر الغذائية فيه فكذلك الجسم المسلم لا يكون إلا كما أراده الله تعالى توازناً في كل الأمور وشمولاً في كل المناحي، وعندما تغيب بعض حدود المعادلة فإن نتيجة صحيحة لن تتحقق أبداً.

أرأيتم في كتب العقيدة كيف أن علماءً أكابر قالوا في نهاية ما وصلوا إليه : (اللهم إيماناً كإيمان العجائز) وما قصدوا غفلة بل قصدوا يقيناً يتشابك مع النفس فلا ينفك عنها بحال.

أرأيتم إلى أصحاب القلوب الفطرية التي ما أضاعتها الفلسفات المنحرفة ؛ تذكر لواحدهم آية أو حديثاُ فتدمع عينه رغم تقصيره ويحاول التدارك ، وإن قصر ظلت روحه في تعلق وتوقان إلى الخير.

وفي نفس الوقت أرأيت إلى أقوام مازالوا يدورون ويلفون ، ويفلسفون ويشرِّقون ويغرِّبون حتى شككوا الإنسان في عقيدته ودينه وعبادته وصلاته. صارت الشعوب المسلمة تحت وطأة جهاز إعلامي دولي هائل ، يقول لها : أنت جميعاً شعوب إرهابية ولو استنكرتِ القتل والدماء والإرهاب ، وأنت جميعاً شعوب مجرمة مادام في أرواح أبنائك حب الجهاد والاستشهاد ، وأنت جميعاً شعوب همجية لا حضارية مادمت مستعلية عن تقبيل أيدي اليهود ، وأنت جميعاً موضع اتهام وريبة مادمت تتمسكين بإسلام مهما ضعف أبنائه عن حمله فأنت متهمة به ما لم يفصل لك في العواصم الكبرى ليصبح إسلاما هجيناً ؛ إسلاماً مؤمركاً أو مصهيناً ؛ إسلاما ضائعاً أجوف ؛ إسلاما لا يستقر في حياة ولا مجتمع ولا أسرة ولا فرد ؛ بل هو بقايا فلكلور وطني وإرث متاحف تضعه مع المحنطات والمستحاثات الحجرية البائدة.

(ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)3، ويا أيها المخربون والمغربون ألقوا بسحركم في أمة محمد (صلى الله على محمد وآل محمد وصحب محمد) ألقوا بسحركم حتى تفتتوا كل عزيمة وتدمروا كل موقف ؛ حتى تظن الشعوب المسلمة نفسها مجرمة إن فكرت بمقاومة أو جنحت إلى جهاد.

والدنيا كلها على حق وأنتم أنتم يا مسلمون على باطل ؛ فلا الصهيونية السادية بكل جرائمها..ولا الأحقاد الصربية بكل وقاحتها..ولا جرائم أميركا بحق العالم الإنساني ابتداءً من هيروشيما وناغازاكي ومروراً بفيتنام وفلسطين والصومال والأرض الحرام والعراق ، ولا الوقاحة الفرنسية في التجارب النووية أو الإمداد التقني و المخابراتي لطمس الإسلام في بلدان عديدة ، ولا كل الخبث البريطاني منذ وعد بلفور ومروراً بكل الجماعات المنحرفة المغذاة مادياً ومعنوياً لزيادة التشتيت ، ولا الأحقاد الصليبية الروسية في الشاشان وفي البوسنة ، ولا الاحتكارات العالمية الدولية ولا أخطبوط الشركات المتعددة الجنسية ، ولا دماء شعوب الأرض المستعبدة للطاغوت العالمي الجديد ، ولا أصوات الجياع والفقراء والمشردين واللاجئين والمعذبين ولا كل الجرائم تستدعي أية شكوى.

لا احتلال وطن ولا تشريد شعب ولا تدمير أمة ولا محو عقيدة يستدعي أي شيء ؛ كونوا يا مسلمون هادئين مثل الأطفال المهذبين وإلا فستكونون مثل الطفل المشاغب الذي ما عاد تكلم أبداً وعلى وجهه أمارات الرعب والخوف بعدما وقع تحت يد أستاذ سادي مجرم .. كوى له لسانه بالنار فشلَّهُ أبداً.

وفي ذلك السعير الهائل .. يكاد المسلم يضيع ؛ تصبح المسَلَّماتُ قابلة للجدال ، وتحت اسم التَّـنَورُ والفكر الحر والسلام الرائع ُتشل أمة.

ابن عطاء الله لما كثر أصحاب القلوب العمياء ؛ يجادلون حتى في وجود الله تعالى لم يضع وقته معهم بل ألقى بعبارته المشهورة في وجوههم تقطع عليهم طريقهم ، وتفتح لأصحاب البصيرة الصراط المستقيم لمَّا قال: (إلهي متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي الموصلة إليك ؛ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو الدليل عليك ؛ كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك) وألقاها إليك ابن تيمية من رواء القرون : (المحبوس من حُبس قلبه عن ربه والمأسور من أسره هواه).

(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شَجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)4.

إن الذي يجري حول المسلمين في كل صعيد هو محاولة احتلال العقل الباطن.

ما الفرق بين العقل الواعي والعقل الباطن.

العقل الواعي يقود الأحاديث والافتراضات والقناعات ؛ أما العقل الباطن فهو الذي يصوغ حياتنا ومشاعرنا ونفسياتنا تبعاً للرؤى والافتراضات والقناعات ؛ العقل الواعي مثل الفلاح الذي يضع البذور في التراب ، أما العقل الباطن فهو التربة التي تحول البذور إلى ثمار ؛ العقل الواعي يعمل في حالة اليقظة فقط أما العقل الباطن فهو يعمل حالة اليقظة والنوم ، والعقل الواعي يتعامل بالمنطق ويدرك السبب والنتيجة وتأتي معلوماته عن طريق الحواس .. ويحلل ويركب ويستنتج ويستقرئ ؛ أما العقل الباطن فيتعلق بالعالم الداخلي للإنسان ولا يفهم المنطق ولا يميز بين الخطأ والصواب ويتمسك بكل ما عنده.

والذي يجري الآن على صعيد العالم الإسلامي هو التأثير في العقل الباطن للشعوب المسلمة ابتداءً من الفرد فالأسرة فالمجتمع فالأمة كلها.

أفلام الرسوم المتحركة للأطفال تأتينا من مصادر خارجية بعضها هدفه تجاري بحت والبعض له غايات مرسومة على رأسها : التأثير الاستراتيجي في العقل الباطن للطفل ، واذكر على سبيل المثال بعض أفكار ؛ نتائجها البعيدة سلبية : فمسلسل توم وجيري لا ينفصل أبداً عن التربة التي أنتجته ، والإلقاء في العقل الواعي والباطن معاً بأن كل شيء في الحياة يترك من أجل قبلة من قطة شوارعية أمر لا يحتاج إلى شرح ، وكذلك مسلسل ساسوكي والكابتن ماجد ، والحقيقة أن أجهزة الإنتاج العربية تعاني من مشاكل حقيقية لسيطرة الشركات العالمية على السوق وغياب الإنتاج الوطني.

وعلى صعيد الأسرة ؛ فما زال المخرجون الرديئون يركزون على النفسيات والحالات السلبية ، حتى أصبح الأمر الطبيعي أن كل إنسان يشتغل في مكان فيه امرأة فلا بد أن يقع في غرامها ويطلق زوجته ، وقد تكون هنالك حالات يحصل فيها هذا فعلاً ، ولكن هذا التعميم مغلوط وغير صحيح ، ولماذا لا تذكر حالات من ملايين الحالات لأهل الاستقامة والعفة والوفاء لأسرهم وأصحاب الخلق الكريم.

أما على صعيد المجتمع والأمة فالأمر أدهى ويعتمد على أساليب شديدة الذكاء بعيدة الغرض ، وعندما دخل المغول بغداد والتتار دمشق ما سقطت واحدة منها لقلة العدد أو العدة بل لأن الإيمان غاب فاحتلت القلوب زخارف الدنيا ، وبقي العقل الباطن في فراغ هائل ملأه الرعب من الجيوش الزاحفة ؛ حتى انتشر المثل التافه : (حُط راسك بين الروس وقول يا قطَّاع الروس) فلقد وصلت الأمة وقتها إلى الحضيض ، والمكان الذي يسمى قرب القصاع (في دمشق) ببرج الروس لا علاقة له بروس ولا أميركان ؛ بل هو النتيجة العملية للشعار الذي سرى بين الناس والذي صنعه العقل الباطن لهم.

واليوم تتكرر القصة، يراد لهذه العقيدة ولهذه الأمة ولهذا البلد خصوصاً أن يركع لهم ويسجد وأن يسبح بحمدهم ، وتستخدم لذلك ضغوطات شديدة ، ولكن أخطرها هو تغيير العقل الباطن وتحطيم جهاز الإمداد والدعم والاقتحام.

إن تغيير العقل الباطن يعتمد على ثلاث طرق رئيسية :

1- التكرار 2- الإيحاء 3- تغيير القيم.

لقد كان شعار جهاز الدعاية النازية : (اكذب اكذب فلا بد أن تجد من يصدقك) فالتكرار: يوقع في القبول التدريجي ، والإيحاء : بالترغيب في رفاهية اقتصادية مزعومة أو الترهيب من مصير مظلم ، وتغيير القيم : بتحطيم أسس الثبات، ويعين في ذلك خصوصا تلك التجمعات الفكرية المنحرفة التي تتسلل تحت غطاء الإسلام. بريطانية لما أعياها المسلمون في الهند اخترعت لهم ديناً سخيفاً فلسفته تقوم على أمرين :

1- بريطانية هي ولي الأمر الشرعي وما دام الله تعالى قد أمر بطاعته في القرآن الكريم فلا بد من طاعتها.

2- الجهاد ضد الإنكليز لا يجوز. وانتهت القضية ... وفي ساحات العالم الإسلامي اليوم كثيرون يدمرون غفلة أو قصدا ً؛ جهلاً أو علماً ولكنهم جميعاً يصبون في خانة واحدة كنتيجة.

وأول طريق الثبات التمسك بما تعرف وتدع عنك ما تنكر ، وإذا عرفت فالزم ، وعليك بجماعة المسلمين وإمامهم ، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فعضَّ على غصن جذع شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك كما أوصاك الهادي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ أي تمسك بما تعرفه من الحق ودع عنك أهل الأراجيف.

(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)5 ، وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعظة بليغة وَجِلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا : يارسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ؛ قال : (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)6.

مما ورد في الخطبة الثانية : (في عام 1985 أعلنت إسرائيل القدس عاصمة إسرائيل الأبدية ، واليوم أميركا تتبنى قراراً بنقل سفارتها إلى القدس اعترافاً بذلك. هذا جزء من الملهاة والمأساة، وعندما تكون الأمة خاضعة

لقوى عظمى تضغط عليها. وقتها عليها أن تستخدم السلاح الذي لا منطق فيه ولا يفهمونه : منطق الجهاد والاستشهاد ، وماذا يفعلون بشعب يريد أن يموت ليحيا ، ومن نفثات خبيب ودم عمير بن الحمام القاني.

من عطر حنظلة ترك عروسه ليلة العرس ليذهب للجهاد :كتبت أخت من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) شعراً لزوجها المجاهد وقد تركها صبيحة يوم العرس ليذهب إلى عرس الجهاد 7.

- ألقيت هذه الخطبة بتاريخ الجمعة : 3 جمادى الآخرة 1416هـ الموافق 27/10/1995م.

الإحالات:

1- الأنعام 122.

2- فاطر 22

3- البقرة 127

4- النساء 65

5- الحشر 7

6- أخرجه أبو داود: كتاب السنة 4607 والترمذي:كتاب العلم 2676 وقال حديث حسن صحيح.

7- تجد شعر الأخت في الصفحة التالية.

» استراتيجية مقاومة: المقاومة الشيشانية.. والفلسطينية : ما الفرق؟