استخدم حتى الدين للقهر. العالم الذي يقول للناس إياكم أن تعترضوا على الظلم لأنكم مؤمنون والظلم قدر من الله فلا تدفعوه ؛ هذا العالم أداة قهر مخيفة. المفتي الذي كان يبرر للأقوى ذبح خصومه ؛ مارس القهر بشكل بشع وربما قتل الحاكم مرَّةً (صواباً أو خطأ) ولكن الفتوى المنحرفة تبقى تقتل إلى يوم الدين متجاوزةً الزمان والمكان.
الإمام القاسمي5 عالم جليل لم يجد ضيقوا النظر وسيلة لإحباط جهوده إلا بقهره من جهة السلطان فكتبوا إلى الباب العالي بأن القاسمي قد اخترع مذهبا خاصا اسمه: المذهب الجمالي.
هذا نوع من القهر لأهل الدين بوسيلة دينية (ولو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن)6.
في إحدى الدول الإسلامية سُئل عالم كبير عن الحكم الشرعي في المسألة التالية: امرأة متزوجة منذ سنوات زوجها لا يسمح لها بزيارة أهلها أبدا ؛ والدها الآن على فراش الموت يريد رؤيتها. الزوج لم يوافق!! أصرت الزوجة فما أبه الزوج لها! استفتت "الزوجة" العالم الكبير من خلال ورقة أرسلتها وهي جالسة في سدة النساء والمسجد غاص بالمصلين ، وأفتى العالم بأن هذا حق طبيعي لها ولا يجوز لزوجها أن يمنعها من زيارة والدها خصوصا أنه على فراش الموت والإسلام جاء ليصل الأرحام لا ليقطعها ، وثارت ثائرة لا الزوج الجاهل فقط بل ثائرة المصلين ؛ اعتبروا الأمر تحديا خطيرا لسلطة مرعبة يتحكمون بها في نسائهم حتى في حقوقهن الفطرية ، والمذهل أن أولئك الجهلة أصروا على أن يرجع العالم عن فتواه ، والعالم الحق لا يترك الحق لهوى الجهال ؛ فأصر على الحكم الذي بيَّنَهُ ، وبين لهم غلطهم وجهلهم ، ولم تنته القصة فقد كُتبت عرائض ورسائل ونشرت مقالات تطالب بأن لا يسمح لهذا العالم بالفتوى ثانية ، وصدق تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم)7 .
أذكر أنني تعرفت يوما على إنسان شديد الإلحاد شديد الانحراف.. صبرتُ على استماع كلامه لأعرف السبب الذي ينحرف به الإنسان كل هذا الانحراف ، وسمعت من الرجل بغضاً شديداً للحجاب فسألته عن السبب؟ فقال لي: هذه أول مرة يسألني فيها شخص متدين عن السبب ؛ من أعرفهم كانوا يهمون بضربي ؛ قلت له: إن هدفي هدايتك لا ضربك ؛ فقال لي: عندما كنت صغيرا كنا نذهب إلى بيت أحد الأقارب فنسهر سهرة طويلة والنساء في غرفة ليس لهن حديث إلا السخيف من القول ؛ أما الرجال فكانوا يشربون الخمر ويسكرون ، وعندما تنتهي السهرة ونعود في منتصف الليل ؛ كان أبي لا يسمح لأمي أن ترفع "الملاية" السوداء عن وجهها في الحارة المقفرة المعتمة ، وقد حدث أنها رفعتها قليلا "مرة" لتجتنب حفرة بدا ظلها في ضوء القمر الشاحب ؛ فما كان من أبي إلا أن هوى على وجهها من يد قاسية بصفعةٍ رنَّت في الحارة المقفرة ، وأعانها ضوء كئيب شاحب لتكرس خوفا ورعبا وقمعا في نفس والدتي لم يفارقها حتى ماتت ، وتابعنا الطريق والوالد السكران يهذرم بكلمات السباب التي لا تقال إلا لعاهرة ، وفي أجواء العائلة كان هذا الأمر مألوفا ومتكررا ، وأغلب الأبناء أضحوا بعيدين من الدين.
هذه صورة بشعة أيها الأخ كانت موجودة ونرفض أي منطق تبريري لها ويبرأ منها الدين وتبرأ منها الفطرة ويبرأ منها الخلق الكريم ولكنها استغلت استغلالا بشعا! استغل ذلك القهر الذي يرفضه الدين ليُقهر الإنسان ثانية في دينه. هناك من يحمل في ذهنه تصورا معينا في غاية الخطأ عن الدين ، فهو لا يُصلح ما فسد "بسبب انحراف الناس" بل ينسف ما صلح ، وهو لا يحارب القهر الديني ، بل يحاول تشويه الدين كله ، وهنا يُستنفَرُ الناس فيصيبون ويخطئون وهم يحاولون صد القهر الذي يتعرضون له.
هناك من يصور الحجاب كرمز للقهر ويحرض ضد الحجاب ، وهو لا يمتلك منطقا سليما فلذلك يأتي الرد عليه بمنطق المضادة الكاملة التي لم يعد فيها حوار ، وأضرب لك أيها الأخ مثلاً شديد الوضوح: مسلسل "بسمة الحزن" الذي عرضوه منذ أسابيع ؛ فيه عباراتُ تحقير للحجاب بإبرازه رمزا للقهر الاجتماعي ، وفيه إهانة لكل بُعدٍ إيماني فيه بتصوير الحريص عليه إنسانا منافقا دجالا فاشلا ؛ يمنع أخته من أبسط الحقوق بينما هو يرتاد دور الفجور ويسمح لنفسه بما يشاء ، والمسلسل بجملته حافل بضحالة لا تجارى ولم توفق فيه الكاتبة ولا المخرج! وقد أزعج كثيرين من الناس ، ورأيي الخاص وهذا أمر ذكرته مرارا أنه ما دامت مثل هذه النماذج قد وجدت يوما ما أو لا زالت موجودة فلا إشكال في إبرازها بغض النظر عن الطريقة ولكن الأمر الذي لم أفهمه حتى الآن! تلك العبارات التي ذكرتها البطلة قبل انتحارها لابنة أختها! وقضية الانتحار نفسها! فهي تحمل بعدا تحريضيا مخيفا وكان يجدر بالمخرج أن يجعل في النهاية تعليقا ولو بسيطا يقول فيه: إن هذه القصة ولو حدثت فليس مُبَرَّراً للإنسان أن يلجأ إلى الانتحار ، وعليه أن يكون أقوى من اليأس ؛ هذا إن لم يتكلم عن بُعد إيماني. النهاية الكئيبة انعكست بشكل خطير ، فقد ذكرت لي مُدرسة بأن بعض المراهقات وبعد عرض النهاية سألنها عن المانع من أن تنتحر الواحدة منهن إذا مانع أهلها علاقتها مع بعض صعاليك المدارس ، والحمد لله أن الأمر وقف عند حدود الكلام ، ولكن البعد التحريضي السلبي والمدمر في المسلسل واضح تماما!
كل أجهزة الإعلام العربية تشكو من رداءة مستوى ما يقدمه الكُّتـَّاب ، ولكن للرداءة أنواعا ؛ أسوأها: ما يحاول الالتفاف بشكل لا معقول على انتماء الأمة وهويتها وخصائصها. حسنٌ فليكتب أحدهم قصة عن فتاة مسكينة كانت مقهورة باسم الدين على يد جهلة لا يعرفون عن الدين شيئا ، وليوضح أن الحجاب في ذهن تلك الفتاة أصبح رمزا للظلم والتسلط ، ولكن ماذا بعد؟ لماذا لم تنتج مراكز الإنتاج التلفزيونية من المحيط إلى الخليج مسلسلا واحداً.. يتيماً.. بطلته امرأة محجبة عاقلة مثقفة ؛ الحجاب عندها رمز تحرر لا رمز عبودية! لماذا لا تظهر المحجبات في المسلسلات العربية من المحيط إلى الخليج إلا جاهلات سخيفات ؛ بقايا تقاليد اجتماعية منحرفة أو خادمات في البيوت ؛ إن في معترك الحياة مئات الألوف من الأخوات المؤمنات الطاهرات اقتحمن كل الميادين مع المحافظة على دينهن وحجابهن فكان منهن الطبيبات والمهندسات والمدرسات والمثقفات والعالمات فلماذا ألغي وجودهن دفعة واحدة ؛ وأنا أعرف حالات كثيرة لفتيات مؤمنات يتلقين في بيوتهن الضرب المبرح على يد آباء وأمهات علمانيين 8 بزعمهم لوضعهن الحجاب!