أخت لها فهي كالمرجل المضطرب تريد أن تعرف السبب ، وصارت تنشر كل كذب و بهتان و لولا حرمة المساجد و آداب المنابر و التزام السنة لذكرت اسمها تحذيراً للناس من خبث ما تفعله ، وحدثونا عن رواية ابن ماجه و الحاكم : (ما من مسلم تدرك له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة)23؛ فيا من زهد في الخير ما أقعدك عن الجنة؟ ويا بقية الجاهلية في النفوس متى ترحلين؟ فيكون الاستبشار بالبنت مثل الولد و تذهب أخلاق المنحرفين (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم)24؛ ومن لم يفعلها بوجهه فعلها بحاله وقاله و قلبه و قالبه ، وخبرونا عما رواه ابن حبان بسند صحيح (من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها)25 ؛ فبمن تطمعون لبناتكم؟ أبصاحب مال و عقار و حذاء و كساء وبناء ، ولو كان دينه ما كان .. أم ماذا؟ و حدثونا عن أستاذة لا تجمع حولها إلا بنات الأغنياء ، وقد تزوجت تلميذة لها من رجل متدين عاقل و لا نزكي على الله أحداً فكان مهرها عشرة دراهم فضة فغضبت الأستاذة العظيمة الفقيهة و قالت بالحرف كما بلغنا (شو قطة ، ومعناها: أبلغ الأمر أن تصبح تلك الزيجة رخيصة مثل زيجات القطط) لأن التفاخر و التكاثر مصيدة عند أمثالها لاجتذاب بنات أصحاب الأموال ، ولو خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم (إذا خطب إليكم من ترضون دينة و خلقه فزوجوه إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض و فساد عريض)26، وحدثونا عن أمة يشقى فيها الشاب ؛ فالمكافح الساعي المجهد ربما ظفر بعشٍ صغير في أطراف المدينة فيأتي ليتزوج فيقال له: لا نزوج ابنتنا في الأطراف ، وثمن بيت الأطراف ربما ثمنه مليون وليس شيئاً سهلاً ، ولكنها جاهلية معشعشة و إن كان أصحابها يصلون و يصومون ، وتكبر مخيف على نعم الله أخشى أن تكون آخرته عنوسة مئات الألوف من الفتيات ، وعزوبة مئات الألوف من الشباب ومن يأبى السنة و الشرع و المنطق والحكمة فأخشى عليه من يوم تصبح فيه بناته بالمجان!! عافانا الله من سوء المآل .
و حدثونا عن الالتزام بالسنة عند الموت واتباع الجنائز و قد ورد أنه : (لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار)27؛ فرفع الأصوات منهي عنه بكل الوجوه و بيع القرآن في أيام التعزية و المشارطة على قراءته فيها خطر عظيم ، و أهل الميت إن صنعوا الطعام للناس خالفوا السنة و ليس في شرع الله أربعين ولا سنوية و إنما هي عادات أمم غير مسلمة ، وما فيها خير بل تكلف مذموم ، أما خروج الناس إلى التشييع و الدفن فالسنة فيه الصمت و التفكر بالموت لا الحديث عن الدينار و الأسواق و الأرزاق! ورحم الله الإمام سفيان إذ سأله رجل أين أصلي فكأنه بفراسته أدرك ثغرة فيه ؛ فقال له: أطب مطعمك و صل في أي صف شئت. ليكن قرشك حلالاً يا ابن آدم .. دع عنك العِباد و ما فعل العباد و انتقاد العباد و امض إلى أي قبرٍ شئت تأتك موعظتك ..دع عنك الفضول و التكلف ؛ لاتسأل عما لا يعنيك طر إلى الحق بجناح الصدق كما يقول الإمام الجيلاني رحمه الله .
وأخبرونا عمن يربي أبناءه على وصية رسول الله لأصحابه بأن (لا يسألوا الناس شيئاً)28، فيا من يربي ابنه على رجولةٍ زائفة و يدس في جيبه كل يوم ألف ليرة يلهو بها ، وألف ليرة يرشو بها كل معترض ؛ ما أفلحتَ! ليدُ شاب يفلح أرضاً أو يافعٍ يحمل شيئاً يبيعه يدور به طوال النهار خير من كل ما أتيت به. ذلك يبني للأمة و يصبح رجلاً ، وتدليلك لابنك أنانية مخيفة و تخريب للأمة و لابنك معاً . لقد أصبح كثير من الشباب مثل غادة هيفاء تكسراً و ميوعة و رقة .
الالتزام كما يحب الله و رسوله لا كما نهوى ، والفرد و الأسرة والمجتمع الذي يعيش الذاتية الطاغية لا يصل إلى الحق أبداً! والدنيا وإن طالت فالعمر قصير و آه من طول السفر و قلة الزاد و مشقة الطريق ؛ يقول الإمام الجيلاني قدس الله سره : (لا تهربوا من خشونة كلامي فما رباني إلا الخشن في دين الله عز وجل).
ويا أصحاب الأموال و الدور و المناصب و القصور و المتاجر العامرة و السيارات الفارهة تعلموا من الإمام الجنيد و قد رآه أصحابه بعد وفاته فقالوا له : (ما فعل الله بك؟ فقال : طاحت تلك العبارات و فنيت تلك الإشارات وما نفعتنا إلا رُكيعات قمناها في جوف الليل) ، وقيل لإمام العلماء معاذ ابن جبل رضي الله عنه في مرض موته : ما تشتهي؟ فقال ليلةٌ باردة أقوم ليلها!
فيا طالب الجنة بادر و يا هارب النار حاذر ؛ من صحت بدايته صحت نهايته كما يقول لك ابن عطاء رحمه الله ، وإن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ أي معرفة الله و القيام بحقوقه تعالى.
اللهم اجعلنا لك من الطائعين .. من عمل صالحاً فلنفسه و من أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون .
- ألقيت هذه الخطبة بتاريخ الجمعة : 18 محرم 1416هـ/ الموافق : 16حزيران 1995م.
الإحالات :
1- يونس 106.
2- يونس 105.
3- يونس 108.
4- هود 23.
5- مسلم ، الجمعة 867.
6- البخاري ، الاعتصام بالكتاب والسنة 7280.
7- البقرة 143.
8- النور 51.
9- النساء 65.
10- الحشر 7.
11- آل عمران 31.
12- الأحزاب 21.
13- النساء 59.
14- النساء 80.
15- الشورى 52-53.
16- النور 63.
17- البخاري ، الأذان 717.
18- مسلم ، الأشربة 2033.
19- البخاري ، بدء الخلق 3321.
20- مسلم ، البر والصلة والآداب 1914.
21- مسلم ، الرضاع 1469.
22- مسلم ، النكاح 1437.
23- ابن ماجة ، الأدب 3670. وقال الألباني : حسن.
24- النحل 58.
25- ذكر الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ، المجلد الثاني ؛ الباب الثاني ، الحديث 7: أن ابن حبان رواه في الثقات من قول الشعبي بإسناد صحيح.
26- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب ، النكاح 1085.
27- أبو داود ، الجنائز 3171، وهو ضعيف ، وساق الإمام أحمد في مسند باقي المكثرين عن أبي هريرة ؛ ثلاث روايات كلها ضعيفة ، والحديث حسنه السيوطي ، ولكن في سنده ثقة يرسل ويدلس ، وفيه مجهولان ، ولاننصح بالاستشهاد به لثبوت ضعفه ، مالم يعضده حديث قوي ، وعندما استشهدنا به لم نكن نعلم بحاله والله أعلم بالصواب.
28- مسلم ، الزكاة 1043.