الالتزام والمرأة المجذومة
الحمد لله (فلله الحمد ربِّ السماوات وربِّ الأرض ربِّ العالمين)1 ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون)2 ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم)3.
عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أما بعد:
فإن الله تعالى يقول (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير)4 ؛ قال الإمام ابن كثير: يأمر الله رسولَه والمؤمنيُن بالثبات والدوام على الاستقامة وذلك من أكبر العون على النصر، وينهى عن الطغيان وهو البغي فإنه مصرعة ولو كان على مشرك. إن من أعظم ما تستجلب به الاستقامة أيامُ رمضان.. و(من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)5 ولا تكاد عبادة تجمع كل معاقد الخير مثل الصيام فهي توقظ في الإنسان كل أحاسيس الإيمان وتسير به نحو كل الطاعات وتبعده عن المز الق والمهلكات ، ولعظم هذه العبادة جاء في الحديث الصحيح عن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)6 ورمضان باختصار شهر الالتزام مع الله سبحانه وتعالى ؛ فإذا لوحظ بعد ذلك أن الجهود والأوقات التي يبذلها المسلم لرمضان لا يكون مردودها من الالتزام مع الله كما ينبغي [وشهر إعادة التأهيل الإيماني إن جازت لنا تسميته لا تكون امتداداته في حياة الأمة المسلمة بالسوية المتوقعة] إن لوحظ مثل هذا فينبغي أن يعلم أن معنى الالتزام كله قد يكون ضائعا عند الكثيرين ؛ فما هو فهمنا لمعنى الالتزام مع الله؟
آية واحدة في كتاب الله تشرح كل ذلك ؛ قال تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)7. ونقل القاسمي عن السيوطي في الإكليل أن في الآية وجوب الحضور لمن دعي إلى حكم الشرع وتحريم الامتناع.
ويبقى السؤال الملح يبحث عن جوابه : ما هو مستوى التزامنا بديننا وبعقيدتنا؟ وقبل أن أجيب سأذكر مثالا عن الالتزام حتى لا يذهب كل واحد منا إلى ما يتوهمه التزاما فيقيس الأمور من خلاله ، والمثال لم يحصل في أمة مسلمة ، والحكمة ضالة المؤمن ، وبعده سأذكر مثالا عن الالتزام في الأمة المسلمة.
في عام ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين ذهب فريق من علماء الجيولوجية إلى جزيرة نائية صغيرة في إندونيسية وفوجئوا بجندي عجوز يصوب إليهم بندقية قديمة ولكن صاحبها يعتني بها جيدا فما تزال تلمع في ضوء الشمس ، وهدد الجندي بإطلاق النار على كل من سيحاول التقدم في أراضي [جلالة] إمبراطور اليابان.
كان الجندي آخر رجال كتيبة يابانية احتلت بعض الجزر الإندنوسية في الحرب العالمية الثانية ، وانقطعت اتصالات الكتيبة بقيادتها وانتهت الحرب ومات الرجال ، وطويت السجلات العسكرية بعد أن ظُنَّ أن رجال الكتيبة قد فقدوا جميعا ، وبقي الجندي الشجاع وحيدا في الجزيرة! يستيقظ في كل يوم عند طلوع الفجر فيقوم بالتدريبات الرياضية المقررة ثم يتفقد التحصينات الدفاعية التي أقامها رفاقه ، وفي الساعة السادسة تماما من كل صباح كان يقف لوحده في الساحة ليحيي علم بلاده ويردد نشيد الأمة التي ينتمي إليها. لقد كان يعتني اعتناء شديدا بنظافة سلاحه ... ورفض الجندي العجوز إلقاء السلاح ولم يرد أن يسمع من أحد أن الحرب قد انتهت! كانت عقيدته أن الأرض التي يقف عليها من ممتلكات اليابان ، ومادام الإمبراطور أعطى أمرا بالدفاع عنها ؛ فلا بد من الدفاع عنها حتى الموت ، ورفض الجندي إلقاء السلاح إلا بأمر من القيادة التي أمرته بحمل السلاح! وبدأت الاتصالات الرسمية لإنهاء ذلك الوضع ! وعثروا أخيرا على أحد القادة العسكريين ممن خدم الجندي تحت إمرتهم.
كان القائد في التسعين من العمر! وقد ألبسوه ثيابه العسكرية كاملة وأتوا به من اليابان إلى الجزيرة النائية وفي موقف مؤثر للغاية قال القائد للجندي : باسم جلالة الإمبراطور الذي أمرنا بحمل السلاح فإنني آمرك الآن بإلقاء السلاح من أجل مصلحة أمتنا التي قاتلنا من أجلها .. وبكى الجندي وهو ينزل سلاحه الذي بقي على عاتقه ثلاثين عاما ثم قال بتأثر شديد : لقد حافظت عليه بعناية كطفلي ثلاثين سنة!!
ولما سألوه كيف صبرت ثلاثين عاما لوحدك في هذه الجزيرة النائية ، وبقيت مستنفرا للقتال ؛ قال: ظللت أحارب أعداء شعبي ثلاثين سنة لأن القيادة العليا لم تلغ أوامرها ، وحيث أن الأمر هكذا فكرامتي كمقاتل جعلتني أبقى ثلاثين سنة أحاربهم.
لقد تأثرت أيها الاخوة بهذه القصة تأثرا شديدا.. وأنا ما ذكرتها كي ننبهر بها.. بل لنستيقظ قليلا من النوم الحضاري الذي نعانيه لنكون مهيئين لفهم الالتزام في الإسلام.
المسلم الذي لا يشعر بتفوق إسلامه لا ينبغي له أن يعد نفسه مسلما! فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه والمسلم الذي لا يوقن أن آفاق الإسلام أرقى من كل آفاق أهل الأرض يكون في أمر التزامه دَخَل .. في عقيدته ضعف .. في إيمانه ثغرة !
وحكايات أهل الإيمان لا تدع لمؤمن راية إلا في ظلال الإسلام .. وهاهي واحدة منها : تهز القلوب هزا !!