وما أصاب بعض المسلمين من ضعف في أخلاقهم وانحراف في سلوكهم إلا لأن الصلاة غدت جثة من غير روح وحركات ليس لها من الخير مسوح أخرج الطبراني وغيره أن رسول الله e قال ( أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا ) رواه الطبراني . وقال الصحابي الجليل حذيفة رضي الله عنه ( أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ورب مصل لا خير فيه ويوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيهم خاشعا ) وحين تتجول في سير الأوائل ترى أن أمثالهم قلائل فإن في أخبار صلاتهم عبرا ودموعهم تنهل على قلوبهم غيثا ذكروا من خبر الحبيب المصطفى e أنه كان يباسطهم ويحدثهم فإذا حانت الصلاة كأنه لم يعرفهم ولم يعرفوه الصلاة أنس المسلم وسلواه وغاية مراده ومناه ويقول ( لبلال أرحنا بها ) رواه أبو داود . ويقول e ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) أخرجه النسائي وأحمد . قرة عينه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها يخلع على أعتاب المسجد الدنيا ومباهجها ويترك هناك أموالها وشواغلها فيطوي صحيفة ذكرها من قلبه ويدخل المسجد بقلب أخذته أريحته لإجلال الله وعقل تهيأ لتدبر كلام إلهه والصديق أبو بكر رضي الله عنه إذا كان في صلاته كأنه وتد وإذا جهر فيها بالقراءة خنقته عبرة من البكاء والفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قرأ لم يسمع من خلفه من البكاء وعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشب وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه إذا حان وقت الصلاة يضطرب ويتغير فلما سئل رضي الله عنه قال لقد آن أوان أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها ومن الناس من يصلون بأجسامهم وأعضائهم يحركون ألسنتهم وشفاههم بالكلم يحنون ظهورهم راكعين ويهوون إلى الأرض ساجدين لكن قلوبهم لم تتحرك نحو بارئها الأعلى يظهرون له الخضوع وقلوبهم نافرة يقرؤون القرآن لكنهم لا يتدبرون يسبحون لكنهم لا يفقهون زينوا ظواهرهم وغفلوا عن بواطنهم وقفوا أمام الله وفي بيته وهم في الحقيقة واقفون أمام مشاغلهم مقيمون بأرواحهم في مساكنهم فترى الرجل قد شاب عارضاه في الإسلام وصلى زمانا طويلا لكنه لم يكمل صلاته يوما لأنه لا يتم ركوعها وسجودها وخشوعها أمثال هؤلاء لا ينتفعون بصلاة فترى الواحد منهم يأكل أموال الناس بالباطل ويسعى بالفساد بين الناس يقوم بأعمال تتنافى مع الدين والأخلاق بل ربما اتخذ الصلاة أحبولة يتصيد بها ثناء الناس عليه ويستر بها جناية يديه ورجليه إخوة الإسلام هذا الحديث للمحاسبة فقف مع نفسك وقفة صادقة لترى أين موقعك قال e إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها ) رواه أبو داود وأحمد . قال حسن بن عطية رحمه الله تعالى إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض إذ ليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته وتعظيمه من الصلاة كحظ القلب الخالي من ذلك وليس حظ القلب المخبت الخاشع كحظ القلب الذي لملذات الدنيا وشهواتها خاضع وليس حظ القلب الذي يرتع في رياض القرآن كحظ القلب الذي تملكه الشيطان هذا قلب أتم صاحبه القعود والقيام وذاك يسرق من صلاته حتى فقد التمام وهذا قلب اجتمع همه على الله وفرغ قلبه للمناجاة فما يشعر بالساعات وذاك قلب يستكثر في صلاته الدقائق واللحظات لأنها عنده أثقل من الجبال قال تعالى {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } النساء .
أيها المصلي الخاشع إنها معركة حامية الوطيس مع الشيطان معركة الوساوس والصوارف والخطرات لأنك قمت أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان يزين أمام ناظريك الملذات يعرض مشاهد ومغريات يذكرك ما نسيت فكأنك بوسواسه عن السجود عميت فيستطير فرحا حين تلف صلاتك كما يلف الثوب الخلق لا أجر ولا فضل أيها المصلون من جرى على منهاج النبي e وسلك طريقته في الصلاة تحقق له الخشوع ومما يعين على الخشوع ويحقق في القلب الخضوع أمور منها أن يخرج المصلي إلى المسجد مبكرا بسكينة ووقار قد نظف ثيابه وطهر بدنه وطيب رائحته وأن يعمل على تسوية الصفوف وسد الفرج وقد نهي المؤمن عن رفع بصره إلى السماء فهو يخل بالخشوع وكذلك نهي عن الالتفات ببصره أو بقلبه وهذا خلف بن أيوب سئل ألا يؤذيك الذباب في صلاتك قال لا أعود نفسي شيئا يفسد علي صلاتي قيل له وكيف تصبر على ذلك قال بلغني أن الفساق يصبرون تحت أسواط السلطان فيقال فلان صبور ويفتخرون بذلك فأنا قائم بين يدي ربي أفأتحرك لذبابة وبعضنا يملأ صلاته حركة بدون ذبابة فكيف إذا تراءت أمام ناظريه الذبابة ومن الأمور عدم التشويش بالقراءة على الآخرين وأن لا يصلي في ثوب أو قميص فيه نقوش أو كنايات أو ألوان أو تصاوير تشغله وتشغل غيره وأن لا يصلي وهو حاقن أو حاقب عن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله e ( أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا يا رسول الله وكيف يسرق من صلاته قال لا يتم ركوعها ولا سجودها ) أخرجه أحمد .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .
الخطبة الثانية : الحمد لله . . أما بعد ؛ من أعظم الدواعي لحضور القلب وخشوعه في سائر الأيام والليالي تدبر الألفاظ والمعاني فكلما قال المصلي الله أكبر تأمل عمق هذا المفهوم وجلال المدلول الله أكبر من الشيطان يغرره بالدنيا الله أكبر من الشهوات والمال والجاه والولد فإذا استقر في قلبه معنى هذه الكلمة وأتى بمقتضاها اطرح خلف ظهره كل ما عداها تأمل في صلاته هذا الجزاء العظيم في كل فاتحة يقرؤها وركعة يركعها قال e ( قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد {الحمد لله رب العالمين } قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال {الرحمن الرحيم} قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال {مالك يوم الدين } قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال {إياك نعبد وإياك نستعين } قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإّذا قال {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) رواه مسلم .
فيا قرة عينك وسعادة قلبك حين يقول لك ربك ثلاثا عبدي عبدي عبدي تأمل هذا الدعاء {اهدنا الصراط المستقيم} فقد زلت مع الفتن أقدام وتوغل في أوحالها أقوام تأمل الأجور الجزيلة ومنها إذا قرأ الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين قالت الملائكة آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وأجور جزيلة أخرى وفضائل كبرى في القيام والقعود وأذكار الركوع والسجود ، من تأملها أيقن برحمة الإله المعبود ، لمن حقق الخشوع والحدود ومما يجلب الخشوع وصية رسول الله e الخالدة وللقلوب هي شافية إذ يقول صل صلاة مودع أخرجه ابن ماجة وأحمد والمتأمل في الأيام وما تؤول إليه الأحوال وفي مصاير الناس حين يؤخذون على التوالي يعلم جلال هذه الوصية صل صلاة مودع دواء ناجع لمن يروم القلب الخاشع فإذا شرع العبد في صلاته فكأنها آخر عهده بهذه الدنيا فأحسن خشوعها وأتم سجودها وركوعها لأن لحظة الرحيل بين عينيه وكأن هادم اللذات مقبل عليه فلا يلتفت بصره ولا يشغل قلبه بشيء غير الله ولا يذهل لبه ولو رأيت منصور ابن المعتمر التابعي الجليل لو رأيته يصلي لقلت يموت الساعة كما قال سفيان الثوري ثم إن عثمان بن أبي العاص أتى النبي e فقال يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي فقال رسول الله e ( ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني ) رواه مسلم . ألا وصلوا عباد الله على رسول الهدى ومعلم البشرية الخير .