د. فاطمة القرني *
وفي هذا النوع من الأبنية التصويرية – كما يشير د.محمد غنيمي هلال – تظهر الأفكار و الأحاسيس صوراً تحليلية للموقف ، ينمو بنمائها ، وتظهر وحدتها في ظلاله ، وبتوافر العنصر القصصي فيه يتوفر الإيحاء ، وتكتسب به العواطف الذاتية مظهر الموضوعية ، وتخفت النغمة الخطابية التي من شأنها أن تبرز فيما افتقر إلى الأسلوب القصصي من نصوص الشعر ، كما أن الوحدة العضوية تكون أظهر فيه عنها فيما عداه من أنماط تصويرية.
- ومن المقطعات التي اتسمت بالحس القصصي وكان للحوار دوره الفاعل في بنائها نص (الجهاد) الذي يقول فيه د. عبد الرحمن العشماوي :
نطارد ظله ويفر منا ونخطب وده فيصد عنَّا
نقول تعال هنا فإنَّا عشقنا وجهك الغالي و إنَّا
تمنيناك من زمن فهلا مددت يد العطاء لمن تمنّى
أبى ومضى وأغلق كل بابٍ وراح مفارقاً إنساً وجنَّا
عجبت ورحت أسأله : لماذا وكيف على كرامتنا تجنّى
فقال : وما تريد ؟ فقلت: شيئاً يقال له (الجهاد) إذا تسنى
فقال – وقد أدار إلي وجهاً صباحياً وقلباً مطمئنا
إذا شئت انتصار الحق فاطلب جهاد (أبي عبيدة ) و المثنى
ودع ْ عنك الذي يسعى لدنيا وإن ذكر الجهاد و إن تغنى
فالشاعر في بنائه للنص يحرك من سكونية موقف الراوي أو الحكاء بإيراده مقاطع من الحوار الذي يدور بينه وبين الطرف الثاني في الموقف المحكي ، وهو هنا (الجهاد) بعد أن يستنطقه وجوداً حياً من (التشخيص) ، ويبادله الجدل حول نقطة محددة هي : لماذا لا يكون النصر حليف كثير ممن يزعمون تمسكهم بالجهاد وسعيهم إليه ؟ ويتوقف به (الجهاد) عند علة تلك الخيبة وهي أن المفاخرة برفع سيوف الكلام لن تجدي مما علت ، وأن (الجهاد) الحلق المؤثر هو ما تمثل في القتال الميداني الفعلي ،
ويرمز لذلك بذكر أسماء الرعيل الأول من المسلمين الأبطال وهما (أبوعبيدة عامر بن الجراح ، و المثنى بن حارثة ) رضي الله عنهما ، ونلحظ أن الشاعر هنا يسخر فنية القص لخدمة الشعر ، فيأخذ من عناصره ما يتطلبه بناء الموقف فحسب ، وهو هنا (الحوار الخارجي ) المثبت بين المقاطع السردية ، بعيداً عن تحديد لزمن أو مكان معينين ، أو مبالغة في عدد شخوص الموقف ، أو تضخيم لموقف الجدل العابر إلى حد الصراع المحتدم ، وغير ذلك مما لا تحتاجه وجازة الموقف السابق ، وهذا التوظيف الواعي الانتقائي الذي يحكم التفاعل بين الأجناس الأدبية من أهم ما دعا إليه النقد الأدبي الحديث وأكد على إيجابيته.
وتأتي لوحة ( الهدهد ) لزياد آل الشيخ كنموذج لصور القص التفعيلي التي يبرز فيها عنصرا (المونولوج) أو الحوار الداخلي ، و الترميز التمثيلي على ما عداهما من عناصر القص .. وفيها نقرأ :
يأتيني (الهدهد) بعد صلاة الفجر ْ
فيحط على غصن الزيتونْ
في عينيه الملأى بالدمع أرى مكتوباً من ورق البردي ملفوف
بشريط أسود حول النصف ْ
فأقول له ما الأمرْ ؟
ما الأمرْ ؟!
[ كالسهم النافذ في طبقات القلب ْ
كالموج الهادر يضرب وجه الصخرْ
كالليلْ
كالبحرْ ! ]
يلقي مكتوب الهجر ْ !
.....................................
.....................................
مكتوبكِ آخر أمر يصدر بعد الفتحْ
أن أرجع كل الجند إلى ما خلف الخلفْ
أن أبقى بعدكِ أحكي للقبطان لماذا اخترتُ البحرْ
فالشاعر يستدعي شخصية (الهدهد) من القصص الديني لتحمل عنه عبء توصيل الرسالة ، بدءاً إليه ، ومن ثم إلى (الآخر) المتمثل في المحبوبة الهاجرة، ومعها جمهور المتسمعين (المفترضين) للحكاية .. الفاجعة ! ... و المفارقة المفاجئة يفجرها (الرسول ) نفسه ، فالهدهد الذي يستبشر في مرآه مقبلا ً بالوصل إلى الماء(1) يطل مغتصاً بماء القطيعة المر .. بدموع الهجران .. ومتى يكون ذلك .. ؟! في الفجر .. بعد ليل السهر الظامئ! .. في زمن الإشراق يطل الغروب ، وممن ينتظر منه الحياة يأتي الموت!! ، وباستخدام الشاعر للفعل (يأتيني) دون (أتاني) تأكيد أعمق على مرارة الفاجعة ، فهي حدث حاضر الألم بشكل دائم ، لا يمكن أن تتجاوز حرقته بحيث يُرى كماض تم التسليم له و الإقرار بوقوعه، وهكذا ... يستمر الشاعر في اهتمامه بحيوية الحدث : (فأقول : ما الأمر ... ما الأمر ؟!) من خلال استخدام الفعل المضارع ، وإثبات التساؤل الذاهل مكرراً ، ويكون الرد ، ممضاً حارقاً ، سيل من التشبيهات المتحركة المتلاحقة ينهمر بها صوت الشاعر ليصف حال (الرسول) .. الهدهد .. وهو ينبئه بالأمر! .. إنه لا يلقي كلاماً ، أو يمد يده بمجرد كتاب مطوي ، بل يحول إلى رامٍ ماهر ، تنغرز سهامه في عمق القلب ، وإلى موج صاخب عات يلطم جوانب الصخور ، وإلى ليل مبهم موحش ، وبحر ممتد السطوة لا نهاية له ، هذه هي صورته القاسية وهو يعلن النهاية المهلكة .. ومتى ؟!.. بعد(الفتح)!!، أي بعد أن ظن المغنى المتحسر أنه قد اطمأن أخيراً إلى خلق وجود أكيد له في قلب الحبيبة. هاهي .. بدلاً من إعلان بدء احتفالات النصر ، تنفي فارسها خائباً .. بكل عتاده وجنوده .. أغانيه ومشاعره.. ليرتد إلى متاه البحر ثانية ، لا حيلة له إلا الارتهان للماضي في اجترار ظامئ لا طائل منه ، و الشاعر في (حكايته) السابقة .. يفيد من فنون أخرى لضمان عرضها بالصورة التي تجسد مأساته ، ومنها تكنيك (المونتاج) السينمائي ، الذي يتم التركيز فيه على عدد من اللقطات المشعة الإيحاء ، التي تشكل تشكل في مجملها تركيبة الفلم الروائية، وهي هنا .. زوايا الصورة الشعرية الكلية لهذه اللوحة القصصية ، ومنها أيضاً ما يسمى بالارتداد أو (الفلاش باك) من الفن القصصي و السينمائي أيضاً، وفيه يتم تضويء الحدث عن طريق الاستعادة التمثيلية و المونولوج الداخلي ، بحيث تروى الوقائع بدرجة تصويرية حية – من خلال إعادة الحوار – و كأنها آنية الحدوث ، لا مستعادة فحسب من الذاكرة ، و لا شك في أن لهذا التعاطي بين الفنون دوره في إغناء الحدث، ورسم نوع ما من التعددية لأبعاد الشخصيات التي تضطلع بتمثيله .
(1) يذكر ابن عباس في عرض شرحه لقصة سليمان عليه السلام مع (الهدهد) أن لكل نوع من الطير وظيفته التي يؤديها في مملكة سليمان ، وأن الهدهد موكل بمهمة البحث عن الماء متى ما احتاج إليه الناس ، وفيه من القوة البصرية ما يمكنه من النظر تحت تخوم الأرض ، فإذا دلهم على موضع حفروه و استنبطوا الماء و استقوا.
نشر هذا المقال في مجلة اليمامة في عددها الصادر يوم السبت 9 صفر 1421هـ في زاوية الكاتبة الأسبوعية إذا قلت ما بي ..!
* شاعرة و ناقدة أكاديمية سعودية.