فإن أثر الإيمان في إشاعة الأمن والاطمئنان من منظور القرآن والسنة.
موضوع واسع ومتشعب، وتتبع النصوص من الكتاب الكريم، وهدى المصطفى صلى الله عليه وسلم يستوجب حيزاً أكبر، ومجالاً أوسع. وكنت أتمنى الحصر في جانب من جوانب الأمن الاجتماعي، أو بعض التشريعات التي فرضت على المسلمين وأثرها في إشاعة الاطمئنان في حياتهم. أو عن الحدود ودورها في استتباب الأمن.
لأن راحة النفس لا تكون إلا بالإيمان، ورخاء المجتمع لا يكون إلا بالأمان. والأمان ثمرة من ثمار الإيمان، وحصيلة من حصائل العقيدة الصافية.
والإيمان والعقيدة الصافية لا يكونان إلا بعد الدخول في الإسلام وفهمه جيداً، وتطبيقه عملاً.
نفس... بلا إيمان
ونفس بلا إيمان فيها تبقى مضطربة وقلقة، وتائهة وخائفة: –
فأما اضطرابها فلأنها كالسفينة التي تتقاذفها الرياح في البحر. فتموج بها تقلبات الجو يميناً وشمالاً، وتتقاذفها العوامل المؤثرة التي تطغى عليها. فهي لم تجد ما يرسيها، أو يوصلها لبرّ الأمان، لأن كل نفس تأخذ مصدراً تشريعياً في سلوكها، أو منهجاً عقدياً في تصرفاتها. غير المصدر أوجده الله للمؤمنين، وارتضاه سبحانه لعباده وبعث به رسله، فإنه لا يلبي رغبة، ولا يريح نفساً، ولا يحقق هدفاً.
والمصدر الذي ارتضاه الله هو كتابه القويم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من عزيز حكيم، ثم ما بلّغ به المصطفى من وحي عن ربه أو أوضحه من شرع لصالح الأمة وإنقاذهم من الضلالة، مما يعالج ما يختلج في النفوس، ويؤرق الضمائر.
وبهذين المصدرين تسكن النفس من اضطرابها. وترتاح في مسيرتها، وتطمئن على حاضر أمرها ومستقبله.
أما كونها فلسفة: فإن من الغرائز التي أودعها الله في النفوس حب استجلاء المستقبل والتخوّف من العواقب، ولكي تسير في اتجاهها: تلجأ يميناً وشمالاً للبحث عما يحقق قبساً من أملها أو راحة من ضمير، ولا يمحو هذا القلق والحيرة من النفوس، إلا يقين يزيل دواعي هذا القلق، ويقضى على مسبباته، والإيمان بالقدر خيره وشره، واليقين بأن ما قدّره الله كائن لا محالة والرضا بما قسم الله: من أقوى دعائم هذا اليقين كما في حديث ابن عباس.
وأما كونها تائهة: فإن من يسير بغير هدى، أو معرفة لشرع الله الذي شرع لعباده: فإنه كالمسافر في طريق لا يعرف اتجاهه. وطرق المسالك في العبادة والعقيدة: كالطرق الموصلة من مكان لمكان، فالذي يأخذ المعروف منها بعلاماته وإرشاداته، فإنه قد سلك الآمن الموصل، أما غيره من الطرق فإنها تؤدى للضياع والاضطراب النفسي، وتدعو للخوف على النفس من المخاطر العديدة، وعلى المال والممتلكات، ألم يقل سبحانه: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَالِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[2].
ويقترن بتلك الأمور كلها الخوف، فهو مصاحب للاضطراب، بل هو المحرك له وهو المؤثر في القلق، كما أنه هو الذي يثير التيهان، ويدعو لعدم الاطمئنان.
فالخوف على المصير، والخوف من المستقبل، والخوف من النتائج، والخوف مما يحيط بالإنسان: على نفسه وولده وماله، وكل عزيز لديه، لأن أنواع الخوف كثيرة، ودواعيها عديدة القياس لكن منهجها واحد.
طريق الأمان
وقد رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بوسيلة إيضاح جيدة، ما يؤكد طريق الأمان، ويزيل المخاوف عنهم، وذلك باتباع ما جاء به من عند ربه: فقد خط خطاً مستقيماً في التراب، وأفهمهم أن: هذا الطريق الموصل إلى الله، وهو ما بعثه الله به، ثم خط خطوطاً جانبية متفرعة منه، وبين أن: هذه السبل، من اتبعها ضل وغوى وابتعد عن طريق الرشاد ثم قرأ الآية السابقة. وفي كتاب الله جل وعلا علاج سهل المأخذ لمن وفقه الله، يريح القلوب، ويطمئنها من كل أمر مؤرق قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[3] أي ترتاح وتهدأ، ويسهل الأمر الصعب، وهذا هو الأمن النفسي، الذي لا يكون إلا بتذكر عظمة الخالق سبحانه واستصغار ما دونه، فلا إله إلا الله: كلمة صغيرة في حروفها. سهلة في نطقها، لكنها عظيمة في مدلولها، كبيرة في معناها، عميقة في تأثيرها: فهي مطمئنة للنفس، ومهدئة للأعصاب، ومسكّنة للجيشان.
ومادة أمن، قد جاءت في كتاب الله هي ومشتقاتها أكثر من ثمانمئة مرة ((800)): فالمؤمنون والإيمان والأمانة، والذين آمنوا، كلها من الأمور المرتبطة حساً ومعنى بالإيمان والأمانة، والأمين، والذين آمنوا، كلها من الأمور المرتبطة حساً ومعنى بالإيمان ونتائجه. وكلها تؤدّى برابطة قوية مع الله، ومن منطلق التمسك بشرعه.
كما أن الكلمات التي تدل على معنى الراحة والسكينة، وتوفير السعادة للنفس وتذكيرها بالله وعقابه لمن عصى وانحرف، والنعيم والفوز لمن أطاع واستجاب كثيرة في كتاب الله.
وما ذلك الاهتمام الكثير في كتاب الله بهذا الجانب، إلا لما يوليه التشريع الإسلامي من عناية فائقة بالنفس البشرية، وعناية بتوجيهها، مع كفل ما يريحها ويؤمّنها من المخاطر حتى تعمل وهي مطمئنة على النتيجة، مع راحة بال بالوصول لثمرة ما كلفت به، لأن العمل قد حداه يقين وصدق.
والنسة النبوية قد اهتمت في هذا الجانب بترسيخ ما جاء في القرآن الكريم، لزيادة تمكينه، بزيادة الدلالة اللفظية والمعنوية، لأن الزيادة تأكيد المبني، زيادة في تمكين المعنى، كما يقول بذلك البلاغيون.
التعريف اللغوي لكلمة أمن
والتعريف اللغوي لكلمة أمن أمناً وأماناً وأمَناً وإمْناً وأمنة: اطمأن ولم يخف، فهو آمن وأمِنْ وأمين يقال: لك الأمان أي قد آمنتك. والبلد: اطمأن أهله فيه، وأمن الشر ومنه: سليم، وأمّن فلاناً على كذا: وثق به واطمأن إليه، أو جعله أميناً، وفي التنزيل العزيز: {هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ}[4].
وأَمُنَ أمانة: كان أميناً، وآمن إيماناً: صار ذا أمن، وآمن به: وثق وصدّقه، وفي التنزيل العزيز: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}[5]، وأمّن فلاناً: جعله يأمن.
وأمّن على دعائه: قال: آمين، وأمّن على ماله وعلى الشئ: دفع مالاً منجّماً لينال هو أو ورثته قدراً من المال متفقاً عليه، أو تعويضاً عما فقد. يقال: أمّن على حياته أو على داره أو سيارته، وأمّن فلاناً: جعله في أمن. وأمّن فلاناً على كذا: أمنه والأمانة الوفاء والوديعة، والأَمَنَة، والأُمَنَة: من يؤْمِن بكل ما يسمع، ويطمئن إلى كل أحد[6].
الأمن الذي تبحث عنه النفوس
والأمن الذي تبحث عنه النفوس في كل شأن من شئون الحياة، هو جزء من هذه المشتقات التي جاء به اللغويون وأوضحوها، وقد جعل القرآن الكريم، وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم محور هذا الأمن الإيمان الذي مقره القلب، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالنفس ومتطلباتها، كالأمن الصحي، والأمن النفسي، والأمن الغذائي، والأمن الاقتصادي والأمن الأخلاقي، وغيرها.
أو ما يتعلق بالمجتمع وترابطه: كالأمن في الأوطان، والأمن على الأعراض، والأمن على الأموال والممتلكات وغيرها.
أو ما يتعلق بالأمن على النفس من عقاب الله ونقمته بامتثال أمره، وطاعة رسوله، واتخاذ طريق المتقين مسلكاً لكي تُنْقَذْ النفس بكسب رضا الله، واستجلاب رحمته والأمن من عذابه في نار جهنم وغيرها.
وكل هذه الأنواع من الأمن مطالب ملحة تسعى إليها البشرية في كل عصر، وفي كل مكان، وكل من حمل راية الزعامة في أي مجتمع وبيئة يدعو إليها، لأنها هي التي تلامس أوتار الخاصة والعامة. ذلك أن النفس البشرية تبحث عن ذلك. ولا تدرك مدى الحاجة له والضرورة الملحة إليه، إلا بفقدانه، أو انتقاص مرتبة من مراتبه.
ويؤصل هذا المدلول ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول: ((نعمتان مجحودتان وفي رواية مغبون فيهما كثير من الناس – الصحة في الأبدان، والفراغ)) رواه البخاري عن ابن عباس[7] ولئن كانت الزعامات البشرية تغفل عن الأمن الأخروي، والأمن من عقاب الله، فإنما هذا عائد لنقص الإيمان لديها.
أما نظرة القرآن الكريم، وتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها تؤصل الإيمان، الذي يجعل النفس البشرية مطمئنة، تؤمن بما قدر الله، وتستسلم لقضائه، وتحتسب ذلك عنده أجراً مدخراً.
ومن هنا فسوف نمر عرضاً ببعض من المطالب البشرية، للاطمئنان على شئون الحياة، ليبرز من ذلك اهتمام التشريع الإسلامي بذلك في مصدريه: كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ليتضح لنا اهتمام القرآن الكريم بالعلاج النفسي المريح، قبل اهتمام علماء ومفكري العالم به.
والفرق بين الاهتمامين أن الإسلام جاء لمصلحة النفس البشرية، وتوجيهها لما يسعدها، وأن المصلحة عائدة لهذه النفس في الأول والآخر، أما ما يضعه البشر من أنظمة، يخاطب بها ألباب الجماهير، وما تحمل من وعود ومطالب وخيالات، فإن هذه الأمور تتبدد كالسراب، لأن الواحد يسعى لنفسه حتى يحقق ما يطلب، ويصل إلى بغيته، حيث يتجاهل بعد ذلك وعده للآخرين بالسعي لمصالحهم، ويتنكر لما يطمئنهم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله رحمة للعالمين، قد كان قدوة صالحة في نفسه أولاً، بمنهج السلوك والعمل، وبدعوته لتأصيل الإيمان، وتمكين العقيدة في الفئة المؤمنة، لأن ذلك مما يطمئن النفس ويريحها.
ومن هنا ندرك أهمية ما جاء في القرآن الكريم، وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من آيات وعبر تقويِّ دعائم الإيمان، وتمكِّنه من النفوس، في كل أمر يعترض الإنسان في أمور حياته وآخرته.
الإيمان لغة وشرعاً
وهذا يدعونا إلى إيراد تعريف للإيمان لغة وشرعاً. ولأن من التعريف يرسخ المفهوم المراد، على ضوء ما يستعرض من أدلة.
فالإيمان لغة: هو التصديق والاطمئنان. وقد مرّ بنا جزء من تعريفات مادة أمن في اللغة والتي توسعت فيها كتب اللغة توسعاً يشبع فهم الباحث، وهي سهلة ميسرة لمن يريدها.
أما في الاصطلاح الشرعي: فهو الإيمان بالله، والإيمان بملائكته، والإيمان بكتبه. والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.
فهذه الأمور الستة هي التي عليها مدار النفس وتفكيرها، في حاضرها ومستقبل أمرها، في شئون الحياة الدنيا، وما يصلح الأموال فيها، وفي المستقبل المنتظر حدوثه في هذه الحياة الدنيا، أو ما يحصل بعد الموت وعند البعث والنشور.
القرآن الكريم وأثره في توطين النفس
فالقرآن الكريم قد أعطى هذا الجانب اهتماماً كبيراً، لما له من أثر في توطين النفس البشرية على الرضى والاستسلام، والترقب والاهتمام، وفق منطلق عقدي، جعل له التوجيه الإسلامي قاعدة متينة يرتكز عليها. وسنداً قوياً يدعمه، لتشد بذلك جوانب النفس حتى لا تنحرف أو تزيغ.
وإذا كانت النفس البشرية في عصرنا الحاضر الذي تقاربت فيه الشعوب، وتداخلت الثقافات، وقد دهمها الاضطراب، بحيث أصبح القلق يؤرقها في كل شيء: فهي تخاف من بعضها البعض، وهي تخاف من كوارث الحياة، ريحاً أو مطراً أو أعاصير أو ثلوج، وهي تخاف من الأمراض المتعددة والأوبئة، وخاصة ما يظهر جليًّا في وسائل الإعلام منذ عامين عن المرض القاتل ضعف المناعة المسمى ((الأيدز)) كما كانت تخاف من السرطان وغيره، وهي تخاف وتضطرب من أمور كثيرة ومتعددة لا يمكن حصرها، حتى أصبح الخوف والقلق سمة من سماتهم، وانتشر تبعاً لذلك الانتحار. والرغبة من الخلاص من هذه الحياة. وما ذلك إلا من نقص الإيمان في قلوبهم، وضعف الوازع العقدي المرتبط بالله وبدينه الذي رضيه لعباده، ذلك الوازع الذي يجعل النفس تؤمن بقضاء الله وقدره، بدون تسخط أو تأفف وتحتسب الأجر فيما تتحمله النفس عند الله مدّخراً في يوم الجزاء والنشور، عندما يحصَّل ما في الصدور، ويؤكد هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: ((يا غلام!!. احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وأعلم أنما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك)) رواه الترمذي.
والله سبحانه وتعالى يسوق الكوارث على البشر في حياتهم الدنيا، لينبه النفوس من غفلتها، وليعيدها إلى خالقها، ويربطها بموجدها، ويذكرها به كلما بعدت، وهذا هو الإيمان بالله وبكتبه وبرسله، وهو معرفة الحق المطمئن. الذي جاء من عند الله، إيماناً به، واعتقاداً بأنه من عند الله قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِّنَ الخَوْفِ والْجُوعِ وَنَقْص مِّنَ الأَمْوَال وَالأَنفُس وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[8].
فإذا كانت هذه البلوى في نزول المصائب على النفوس المؤمنة. من أجل أن يقوى إيمانها، وتستعين به على الصبر والتحمل في مجابهة ما ينزل من بلوى، فإن هذا من ترسيخ الإيمان، والاطمئنان بتمكينه، ذلك أن تسليم الأمور لله، وعدم الجزع مما حلّ لا يتحمله بصبر وثبات، ورضى واطمئنان، إلا النفوس المؤمنة المحتسبة، وقد سماهم الله في آخر الآيات بالمهتدين السائرين على الدرب المستقيم.
والصبر يأتي على ضربين: صبر المؤمن الذي يرجو أجر الله ويخاف عقابه، فيتحمل في سبيله باطمئنان ورضا أموراً كثيرة وهذا هو الذي حث عليه القرآن الكريم في أكثر من ستين موضعاً، وهذا أول نوع من الجهاد فرض في الإسلام. فقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكه ثلاث عشرة سنة، يرسخ في أصحابه عقيدة التوحيد، ويأمرهم بالصبر على أذى قريش حتى يجعل الله لهم مخرجاً، ويطمئنهم بنصر الله وتأييده، وأن الغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وصبر الكافر على ما ينزل عليه من مصائب وكوارث، فهو إن صبر فبغير احتساب وصبره كصبر البهائم لما يحمل عليها من أثقال، أو تلقى من أصحابها في مشقة، وهو إن جزع فإنما يجزع بتسخّط على الله الذي قدّر الأشياء لحكمة وعبرة، فحياته قلق وضجر.
والقاسم المشترك ما بين المؤمن والكافر في تحمل المصائب والكوارث، والاستسلام للأمر وتطبيقه أو النكوص عنه، هو العامل الإيماني، الذي تتفتح عنه النفوس، وتتقبله القلوب كما توضحه الآية الكريمة: {وَلََنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ}[9].
والقرآن الكريم يربط كل عامل من عوامل الدنيا التي تجعل الإنسان قلقاً بشأنها، بقوة العقيدة، وسلامة الإيمان ونقاوته، وبذلك تخف الوطأة، وتهون المصيبة. فهو يخاطب النفس بما يطمئنها ويريحها، ويهدئ ثائرتها، ولن يمر بالقارئ لكتاب الله آية إلا ويلمس فيها سراً عجيباً، وعلاجاً مريحاً، يزيل عن النفس كابوس القلق ومؤثر الاضطراب.
وهذا هو أقوى علاج نفسي للخروج من ذلك المحيط، الذي لم يعرف وجوده لدى المسلمين، إلا بعد ضعف الوازع الإيماني، والتساهل في أمور الدين، والبعد عن كتاب الله الذي هو أكبر مؤثر يريح النفوس، وتطمئن به لما فيه من عظات وعبر، ووعد ووعيد، وهدي المصطفى الذي يعطي حديثاً لكل حادثة، ويجعل لكل حالة مخرجاً.
وليس هذا المفهوم منا معاشر المسلمين الذين نجد العلاج ماثلاً قولاً وعملاً فقط، ولكن رجال الغرب المهتمين بالنفس البشرية، وما تعانيه في مجتمعاتهم في قرننا الحاضر من قلق واضطراب، وأزمات عديدة، قد جاءت دراسات منهم تقول: إن المسلمين لا يعرفون الانتحار المنتشر في بلاد الغرب، وإن المسلمين لا يعيشون الاضطرابات المتعددة التي وقع فيها أبناء الغرب. وبعضهم يطلق على أجيال ما بعد الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية أجيال القلق والضياع الفكري.
ومن هنا نلمس في ديارهم كثرة المصحّات النفسية، وانتشار شركات التأمين على كل شيء يخشون ضياعه أو حلول كارثة فيه.
فاستغلت شركات التأمين التي أسسها ودعا إليها بوسائل إعلامه المختلفة مصاصوا دماء الشعوب وهم اليهود، عندما استغلوا القلق الذي يعيشه أولئك الذين فرغت قلوبهم من الإيمان بالله، فسهل عليهم جذبهم إلى مصائدهم، واستغلال نقطة الضعف فيهم، ومن هنا ندرك بعضاً من سر عداوة اليهود للإسلام وأهله حسبما أوضح الله عنهم في القرآن الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنّهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاكتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، وَمَا لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقُوْمِ الصَّالِحِينَ}[10].
فاليهود وصفهم الله بشدة العداوة لأهل الإيمان، لأنهم يعرفون الله، ويعرفون الحق الذي أنزل على عباده، ويتركون العمل به وأتباعه قصداً، وبسابق إصرار وعن علم ودراية، فلذلك كانوا أعداء لله، ولأهل الإيمان، وأخذوا الأسبقية في هذا قبل المشركين عبدة الأصنام للمعاندة والمخالفة مع العلم، فقلوبهم قاسية وحاقدة.
أما النصارى ففيهم رقة تقرّبهم من المؤمنين فإذا وضح لهم الحق استجابوا لندائه، فهم أقرب للإيمان بأيات الله كما وصفتهم الآية الكريمة.
وما يحصل من قساوة قادة النصارى، ورجال الكنيسة ضد الإسلام فهو لأحد سببين:
– إما مصالح قيادية يخشى عليها.
– وإما بتحريض من اليهود الذين يوالون النصارى ليجتمعوا سوياً في محاربة الإسلام.
ولذا امّتن الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بطريقة وسط بين غلوّ النصارى، وجحود اليهود فالمؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمصدقون بشرع الله الذي جاءهم من عند الله، والمطمئنة قلوبهم بمصدري التشريع في الإسلام عن عقيدة ويقين، يدعون الله بالاستقامة على الطريق المستقيم الذي يمثل عقيدة وسطاً، وعملاً لا مشقة فيه فلا تكليف للنفس فوق طاقتها فتملّ. يقول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}[11].
فالمغضوب عليهم هم اليهود الذين عصوا الله عن علم ومعرفة، والضالون هم النصارى الذين يعبدون الله عن جهل وضلال.
وقد قال سفيان الثوري رحمه الله: من فسد من عباد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ففيه شبه بالنصارى، ومن فسد من علمائهم ففيه شبه باليهود.
الإيمان الذي تطمئن به القلوب
فالإسلام هو دين الحق المطمئن بتعاليمه، المريح بمنهجه، وهو دين إبراهيم الخليل عليه السلام أب الأنبياء الذي عرف آيات الله في حداثة عمره، ففي حواره عليه السلام مع قومه عندما دعاهم للإيمان بعدما تبدّت له الآيات، نراه عليه السلام يدعوهم لترك الأصنام، ويخوفهم بها، لأن قلوبهم متعلقة بها، لاعتقادهم النفع والضر منها، أما هو فلا يرى غير الله جالباً للنفع أو دافعاً للضر، فهو سبحانه الذي يجب أن تؤمن به القلوب، وتسلم أمرها إليه لتهتدي وتطمئن، فتأمن وتستقر، ويبرز هذا العامل الإيماني في هاتين الآيتين الكريمتين اللتين حكاهما الله على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنُ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}[12].
فكان هذا الحوار الكريم من نبي الله عليه السلام دعوة قوية للإيمان الذي تطمئن القلوب به، كما أنها حجة قاطعة تسكت من يناقش، فإذا كان الإيمان غريزة في القلوب والتعلق فطرة فطر الناس عليها، فما هو الطريق الأفضل، وما هو الشئ الذي يريح النفس، ويهدئ من ثائرتها، ويقضى على المشكلات التي تعترضها؟؟
إن ذلك لابد أن يكون شيئاً عملياً تتجاوب فيه الأحاسيس مع الوجدانيات، وتتعاطف فيه الحواس مع الأعمال، ويكون فيه انسجام بين المعقول والمنقول، وبين الأخذ والمأخوذ منه.
وهذا كله لا يتأتى في علاقته بأوهام، ولا بمعبودات، غير مستقرة لا تنفع أو تدفع عن نفسها شيئاً.
ولذا جاء وصف الله جل وعلا لحوار إبراهيم الذي يدعو للإيمان عقيدة وعملاً، بمقارنته بين آلهتهم التي أشركوها مع الله، في عمل لم ينزل الله به سلطاناً، وبين الرابطة مع الله الذي تطمئن بذكره القلوب، وترتاح بالتوكل عليه هواجس النفس، بحيث تبتعد عن المؤثرات عليها. جاء الوصف لذلك بأن هذه حجة قوية على قومه، حيث لم يجدوا لذلك جواباً، إذْ لا شك أن الأمن مع الإيمان بالله، وراحة الضمير مع عقيدة الوحدانية به سبحانه فقال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[13].
والإيمان الذي تطمئن به القلوب، وترتاح به النفوس، يدخل في كل شأن من شئون الإنسان فالأعمال لابد أن تنبثق عن الإيمان وترتبط به، لأن الإيمان بالنسبة للعمل بمثابة المرشّح للماء، فالمرشح يصفي الماء، ويمسك الرواسب فيه، فلا يخرج إلا ماء صافياً، ونقياً صالحاً للشرب، يحافظ على الصحة.
وكذلك الإيمان بالنسبة للأعمال قد أوضحه القرآن الكريم، والسنة المطهرة، لأن الأعمال الصالحة مهما كانت والخصال الحميدة التي ترنو إليها الأفئدة، وتفاوة النفس من الموبقات والمحضورات كل ذلك ثمرة الإيمان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان))[14].
فإذا كان إماطة الأذى عن طريق الناس حتى لايؤذيهم إذا مروا به أو وقعت عليه أقدامهم وهو من أبسط الأعمال، يعتبر من الإيمان الذي يطمئن القلوب، لوجود رابطة تضم شمل المؤمنين. وعاطفة تجعل بعضهم يهتم بالآخرين، ولو في الشيء البسيط من الأعمال والأقوال.
فإن دين الإسلام كما هي نصوص تعليماته، تتمكن فيه عقيدة الإيمان بأعمال أخرى، منها ما هو عائد للنفس وحدها كالحياء الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شعبة من شعب الإيمان الكثيرة، التي حدد عددها في هذا الحديث[15].
والإيمان لا يكون قوياً إلا إذا وقر في القلب، وسيطر على المشاعر، وقد أوضح هذا المدلول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول: ((ذاق طعم الإيمان من رضي الله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً))[16].
وكان من دعاء مالك بن دينار رحمه الله: اللهم أذقني حلاوة الإيمان.
ذلك أن للإيمان مذاقاً مميزاً يحس به من تمكن من قلبه، وارتبطت به حواسه.
والعلم إذا اقترن بالإيمان صار درجة مرغوبة، ويحث عليها الإسلام، وهذا هو العلم الذي ينفع صاحبه، وينفع الآخرين، لأن الإيمان يرشد العالم لطريق الصواب، ويوجهه لما فيه الخير.
وهذا مشهد من مشاهد يوم القيامة يوضح فيه أهل العلم الذين آمنوا بالله: حقيقة معرفتهم ما أوجبه الله عليهم، بما عملوه من العلم النافع المفيد، فطبقوه في حياتهم، واطمأنت به قلوبهم في يوم الفزع الأكبر، والخوف الشديد، فهم يقولون ذلك وبراحة نفس، واطمئنان قوي، حيث أَمَّن الله روعهم، وسكّن قلوبهم بعقيدة الإيمان، يحكي الله جلّ وعلا هذا المشهد بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ العِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إلَى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[17].
فأصبحت علومهم الدنيوية، ومقدرتهم في اللجاج والحجج لم تنفعهم، ولم يعتبر ذلك علماً لأنه لم ينقذهم من أهوال ذلك اليوم، ولمْ يوصلهم لباب من أبواب الاطمئنان والهدوء النفسي، عندما وقعوا في الأمر، ووصلوا إلى يوم البعث والجزاء، يوم القلق النفسي، أو الراحة أو الاطمئنان والنتيجة هذه لا تتأتى إلا بالعمال وفق منهج كتاب الله، وهدي رسوله، اللذين فيهما الدواء لكل داء. ولذا قال بعض العارفين من علماء الإسلام في صدره الأول: إذا سمعت في كتاب الله: يا أيها الذين آمنوا. فأصغ إليها سمعك، فهو إما خير يأمرك الله به، أو شر يحذرك الله منه.
الإيمان وقته الحياة الدنيا
وموقف يوم القيامة يختلف عن المواقف الدنيوية، بل إن الإيمان في ذلك الموقف بعد أن تذهل النفوس، وتضطرب القلوب من هول ما ترى: لا ينفع لأن وقت الإيمان والتبصر قد انتهى، فالإيمان وقته الحياة الدنيا، حيث الفسحة من العمر، وحيث الابتلاء والاختبار، وحيث موطن الصراع بين الخير والشر، بين الشيطان وأعوانه، وبين الإستجابة للحق وهو اتباع دين الله، وما جاء في كتبه، وأنزل على رسله.
وهذا يؤصله القرآن الكريم والسنة المطهرة، بأن موطن الاستجابة في الدنيا حيث تصارع النفس هواها، ويدعوها الهدي الشرعي للوقوف باطمئنان دون نوازع الشر المخالفة له.
فالتوبة التي جعلها الله تطهيراً للنفوس، ما هي إلا عودة للإيمان بإطمئنان وراحة عندما تسرف النفوس في الابتعاد عن أوامر الله وتعاليم شرعه. وهي مدخل إيماني واسع تحث عليها المصادر الشرعية في مواطن كثيرة، وبترغيبات أوضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم تشد النفوس، وتقويها في الاستجابة، وتطمعها برجاء وخوف في الفضل العظيم المحسوس والملموس، استمع مثلاً إلى قول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِم لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}[18].
وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم[19].
وبالنسبة للنفس البشرية فمما يطمئنها أن التوبة مقبولة ما لم تغرغر الروح، وهذه بشارة مريحة تبعث الأمل.
وعلامة إقفال باب التوبة في هذه الحياة الدنيا خروج الدابة التي تسم الكافر والمؤمن بعقيدة كل منها، فلا يخفى بعضهم عن بعض كما قال تعالى: {وَإِذَا وَقََعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكِلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُواْ بِئَايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ}[20].
ذلك أن الخير في الإيمان وأن النجاة في التمسك به، فظواهره في الدنيا بارزة في أمور من حياة الفرد والجماعة، سنمر ببعضها عرضاً، أما الحديث عنها فيطول.
وفي الآخرة بالفوز والنجاة بما تجده النفس مدّخراً، يتمثل أمامها عيناً بارزة، بعد أن كان أمراً مخفياً فتتمنى العودة للإيمان، ولكن لا مجال لذلك يقول عز وجل في تخويف المكذبين المعاندين: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَت مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ}[21].
وكنموذج واقع يجب أن تأخذ منه النفوس عبرة يحكي الله قصة فرعون الذي طغى وتجبّر فبعد أن أدركه الغرق، وعاين العقاب، ضاع عنه عزه وسلطانه، ودب فيه الخوف لأنه لم يستطع أن يدفع عن نفسه شيئاً، فأراد أن يرجع للإيمان لعله ينقذه مما حلّ به، فقال الله جل وعلا موضحاً هذه الحالة: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ءَالْئَانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً}[22].
فإيمان فرعون الذي تلفظ به: يريد به الأمان والاطمئنان من عذاب الله وعقابه، بعد أن عاين المصير، الذي سيؤل إليه كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: [بأن الإنسان إذا مات فإن كان محسناً قال: عجلوني عجلوني. وإن كان مسيئاً يصيح يا ويلتاه أين تذهبون بي، فيسمعه كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن، ولو سمعوه لصعقوا][23].
وما ذلك إلا أن الأول قد أُري منزلته جزاء إحسانه فاطمأنت نفسه، واحب الإسراع بالوصول إليها، لأنها تفضّل من الله عليه.
وأما الثاني فلأنه أُري منزلته السيئة جزاء تفريطه وإساءته العمل، فخاف من ذلك المصير فهو يريد الابتعاد عنها، ولكن لا مناص من ذلك. وأشد ما يستطيع الخائف التعبير عنه هو الصراخ، والدعوة بالويل والثبور، والرغبة في عدم مواجهة الأمر.
وفي عصرنا الحاضر تكونت أجهزة عديدة للمحافظة على المجتمعات، وتأمين سلامة الفرد، والجماعة، على أنفسهم وذويهم وممتلكاتهم، وسمي بعض هذه الأجهزة بالأمن.
وحرصت أجهزة الأمن هذه في كل دولة ومجتمع أن تأخذ بالأسباب التي تطمئن الفرد، وتشعره بالاهتمام به، بحسب متطلبات هذا الأمن، فوضعت النصائح، واتخذت الحيطة وتكونت الأجهزة، والأعمال السرية والعلنية،
وابتكرت النماذج للمحافظة والاهتمام، مع الحيطة في محاربة الطرق المؤدية لذلك.
فهذا هو الأمن الاجتماعي، والأمن الصناعي، الذي يدخل تحته: –
حفظ المجتمع من انتشار الجريمة بالقتل، حتى لا يطغي قوي على ضعيف، وحتى لا يسفك دم مسلم بغير حق، لأن المجتمع الإسلامي قد حفظ بالقصاص والحدود، في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى))[24]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة))[25].
فالإسلام الذي اختاره الله دين آخر خير أمة أخرجت للناس، يؤمن النفس، ويحافظ عليها، ويعصمها من التعدي على غيرها، ويحفظ حقها من التعدي عليها بغير حق.
أهمية النفس في الإسلام
فالنفس في الإسلام ملك لله، لابد أن تعيش آمنة مطمئنة وفق شرع الله، فلا يحق لصاحبها أن يوردها المهالك، أو يحملها فوق طاقتها، ولا أن يقتل المرء نفسه للخلاص من قلق حلّ به في الدنيا، لأي سبب من الأسباب.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي))[26] ويقول صلى الله عليه وسلم في توعّد لمن قتل نفسه. ((من قتل نفسه بشيء فهو يجؤها به في نار جهنم))[27] وقاتل نفسه في النار وحتى يأمن المسلم من أخيه المسلم، ويطمئن إلى عدم إلحاق ضرر به منه، يقول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: ((أي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس هذا يوم النحر؟ قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم))[28].
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهل اليوم والشهر والبلد، ولكنه سألهم سؤالاً تقريرياً ليمكن الجواب من نفوسهم، ويثبت ما سوف ينبنى عليه من حكم، كما يقول بذلك البلاغيون. وكجزاء لعقاب تخويف المسلم. وزعزعة الأمن من نفسه، بالاعتداء عليه، جاء العقاب الشديد الذي جعله الله زاجراً لمن يقتل نفساً بغير حق فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَنَ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أهله}.
إلى أن يقول سبحانه في عقاب العمد الذي أزال الاطمئنان من النفوس: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}[29].
القصاص من أسباب الاطمئنان في المجتمع
وأنواع العقوبات المفروضة تطمئن المجتمع، وتزيل الحقد من النفوس، وتردع من تسول له نفسه الإقدام على أمر فيه جناية، وإخلال للمجتمع حيث يقول سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ}[30].
فالقصاص من أسباب الاطمئنان في المجتمع والقضاء على الجريمة، لأنه يقضي على الفئات الفاسدة في المجتمع، حتى لا يتوسع نطاق عملها في أجزاء أخرى منه، حسبما نرى في المجتمعات الغربية، التي رأفت بالمجرم لأنه في نظرهم يحتاج إلى الرعاية والعطف، فهو لم يرتكب الإجرام في نظر المهتمين بأمره، إلا من مؤثرات تحيط به من صحية أو اجتماعية أو أسرية أو غيرها.. فماذا كانت النتيجة؟؟
إنها بالنسبة للمجتمع حسبما هو واقع الحال: خوف واضطراب، وقلق مستمر.
وبالنسبة للأفراد: انتهاك أعراض، وقتل أنفس بريئة، وتشويه بعمل إجرامي متعمد وبالنسبة للأموال: نهب واعتداء وتسلط.
أما بالنسبة للمجرم نفسه: فسجن محدود، وغرامة مالية قليلة، ثم يخرج للمجتمع من جديد وبفن جديد في عالم الجريمة، وهكذا تستمر الحلقة.
لكن شرع الله الذي شرع لعباده في القرآن الكريم، هو الذي يصلح المجتمعات، ويقضي على جذور الاعتداء، والاستخفاف بالنفوس، وإخافة الآمنين، لما فيه من جزاء رادع يقضي بتطبيقه على الشر، لأنه لا يصلح النفوس، ويردها عن ذلك إلا هذا الأسلوب قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالْعَيْنِ والأَنفَ بِالأَنْفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنِّ بالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}[31].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى}[32].
وهذا هو حكم الله الذي فيه طمأنينة المجتمع، وإخافة الفاعل، والردع عن التمادى في العمل الضار، قد أنزله سبحانه على بني إسرائيل في توراتهم، فخالفوا وعاندوا، وبدّلوا، فكانت النتيجة جرائم متتالية، واضطرابات تزعزع النفوس، وسار على منوالهم النصاري فحلّ بهم ما لحق بسابقيهم، حسبما نلمسه اليوم في قوانينهم الوضعية من امتداد لذلك العمل حيث تجني الثمرات السيئة، فما يطفح على الصحافة من أخبار، وما يبرز من تقارير الجريمة من أرقام.
واختار الله هذه الأمة لتطبيق ذلك فأمن مجتمعهم، واطمأن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم عند الامتثال، ثم دب القلق في بعض المجتمعات الإسلامية، لأن أقواماً استبدلوا بحكم الله قانوناً بشرياً، وغيروا ما أراده الله، بما أخذوه عن غيرهم تقليداً، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ولا شيء يؤمن المجتمع، ويحفظ الأمة، ويقضي على أسباب الخوف، إلا بتطبيق ما ارتضاه الله في شرعه، وأكده رسوله الكريم، بحماية الأفراد، والمحافظة على الجماعات، لأن الله بعباده رؤوف رحيم.
حفظ الأموال من التعدي، والحقوق من التطاول، فالإسلام قد جعل لكل مال حرزه المعتاد حفظه فيه، فمن أخذ شيئاً من حرزه اعتبر سارقاً، والسارق أعطي جزاؤه بقطع يده، التي تطاولت على ما ليس لها، لضياع الأمانة في القلب، وضعف الإيمان في النفس، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءَ بِمَا كََسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[33].
فقطع اليد ليس عدواناً، أو بقصد التشويه للسارق أو السارقة، ولكنه جزاء لهما باستخفافهما بالأمن، وترويعهما الناس الآمنين، واعتدائهما على ما ليس لهما، وعدم احترامهما لشرع الله الذي يصون الحقوق، ويؤمن الناس بالمحافظة على الأنفس والأموال، من التعدي والتطاول بغير حق، ونكالاً من الله لعدم الوقوف عند حدوده التي شرع لعباده، لأن التعدي استخفاف بذلك، والله عزيز في ملكه، حكيم في إرادته وتشريعه.
وقد يعتبر اللصوص بتنظيمهم وقدراتهم في إخافة الناس، وسطوهم هنا وهناك على ممتلكات الآخرين، فيقطعوا السبل، ويفسدوا في الأرض، ويعلنوها حرباً على الله بامتهان شرعه، وتسلطاً على المجتمع بقطع الطرق وإخافة الآمنين، والاعتداء على الأموال والأعراض، والإفساد في الأرض، حيث يضطرب ميزان العدل، وتتخلخل أركانه، فإذا نشأ شيء من ذلك في مجتمع من المجتمعات أزعج السلطة، وضعف كيانها، وضاعت الحيلة لتهدئة المجتمع وإعادة الهدوء والأمن إليه، فيأتي شرع الله العزيز الحكيم، ليحل هذه المشكلة، فالله يقضي على هذه المعضلة، بحل قاطع حسبما يقول سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَف أَوْ يُنفَواْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عََلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[34].
وقد قال الباحثون في أصول الجريمة، المهتمون بطمأنينة المجتمعات، إن الإسلام قد وضع قاعدة قوية في القضاء على الجريمة، في تحريمه الأمور التي تتسبب عنها، أو تدعو إليها: كالخمر والزنا والربا والميسر، ثم بوضعه قواعد تريح العالمين بها وفق منهج سليم يرضي النفوس، ويعطى كل ذي حق حقه، ويمنع التعدي، ثم يفرض جزاءات تجتث الشرور من المجتمع، لأن من فيه نزعة شر لا يرتاح، إلا بإزعاج الآخرين، ومثل هؤلاء كالجرثومة التي لابد أن تكافح، أو كالعضو الفاسد لابد من بتره، وإلا استشرى الداء في الجسد كله.
وإن من تمعن في مدلول الآيات الكريمة الآنفة الذكر، يدرك الإسلام الصارم في القضاء على الأمور التي يترتب عليها إخلال بالأمن، وإزعاج للبشر، وإضرار بالأمة. ومعلوم كما يقول علماء الاقتصاد: "بأن رأس المال جبان لا يطمئن إلا بالأمان، ولا يتحرك وينمو إلا مع الأمن الوطني، والقضاء على مثيري القلاقل الآخذين بجهد الآخرين، المخيفين للسبيل، وذلك بسلطة تجازيهم في الدنيا، وتقطع دابرهم من المجتمع، وعمل هذه السلطة يدعمه تشريع قوي، ولا أقوى من حكم الله ورسوله وتطبيقهما يخيف من تسوّل له نفسه العمل بمثل عملهم".
الإيمان مقترن بالأمان
وفي المجتمع الغربي والأمريكي بصفة خاصة الذي أزعجته الجريمة، وأقلقت مواطنيه وسائل الاستخفاف بالحياة، من فئة معنية من البشر، ضج الناس هناك، وتأثرت كثير من مصالحهم، فرأى بعض رجال الأمن عندهم أن الحل الوحيد في تخليص المجتمع الأمريكي مما يؤرقه، وتخفيف ما يسببه المجرمون للمجتمع من أمور كثيرة، يكمن في تعاليم الإسلام، الذي يجعل على النفس رقابة قوية، أقوى من رقابة البوليس وأنظمته.
وقد جاؤا بأمثلة: أن مجرمين متأصلين في الإجرام، ومن أصحاب السوابق، قد أسلموا في داخل السجن، فصلحوا، ولم يعودا للسجن بعد ما خرجوا منه، أما من خرج منه وهو على ديانته السابقة، فإنه لا يلبث حتى يعود للسجن مرة ومرات.
ومن هذه الدعوة بدأت كثير من الولايات تدعو المشرفين الاجتماعيين والدعاة من المسلمين لتأدية محاضرات وزيارات منتظمة للسجون التي أصبحت أوسع ميدان للدعوة الإسلامية. وقد قال بعض المسئولين في الأمن عندهم إن الخلاص من الجريمة لا يكون إلا على الإسلام والعمل وفق منهجه.
وهذا أكبر برهان محسوس على أن الإيمان يقترن بالأمن والاطمئنان وراحة النفس.
المال موطن الأثرة لدى النفس ونظرة الإسلام إليه
ولما كان المال من أعز ما يملك الإنسان وهو الذي يسيّر الحياة في المجتمعات، فإن سبل الخوف عليه ساقت عبّاده اليهود ومن يشايعهم إلى ابتكار أساليب للمحافظة عليه وكنزه، وكان مما فرضوه على المجتمعات التي يعيشون فيها: الربا. وهو زيادة المال بدون جهد، فلا يحصل النفع من المال بالتداول، ولا يزداد الفقير، إلا فقراً وحقداً على الغني، الذي تتضاعف أرباحه بجهد هذا الفقير.
ومن هنا جاء تشديد الإسلام في الربا، واعتباره محاربة لله، ومن ذا الذي يستطيع محاربة الله، ومحاربة رسوله.
وقد قرن الإيمان، وطمأنينة القلب على النفس، وعلى المال، بترك هذا الربا، وطرقه المتعددة، التي أخبر صلى الله عليه وسلم بأنها ثمانون باباً، أدناها أن ينكح الرجل أمه علانية[35] وهي كلها أمور مخيفة، تبعث القلق والقشعريرة في الإنسان وحواسه، ومن ذا الذي يجابه ربه، ويعاند رسوله في حرب معلنة. استمع إلى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهِ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَى إِن كُنتمُ مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلْواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}[36].
وحتى يرتاح المدين وتطمئن نفسه إلى وجود قلوب رحيمة ترق له، وتهتم به، ولا تقسو عليه، وتراعي حالته التي حلّت به، من عسر أو فقر أو كارثة، فقد أمر الله صاحب المال بمراعاة الموقف، وطمأنة إخوانه المسلمين، وعدم التضييق عليهم في المطالبة فقال تعالى موجهاً لهذا الأمر: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرةٌ إِلَى مَيْسَرةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[37].
ويقول صلى الله عليه وسلم في حكاية الرجل الذي كان له ديون على الناس، فكان يرسل غلمانه فيقول لهم: إذا رأيتم المعسر فتجاوزوا عنه لعله الله أن يتجاوز عنّا، فلقي الله وقد تجاوز عنه [لفظه في تفسير ابن كثير جـ1 ص232].
وبعكس ذلك، فقد اعتبر صلى الله عليه وسلم: مطل الغني ظلم. لأنه قادر على الوفاء ويمنع الناس حقوقهم الواجبة.
وآيات الربا التي نزلت في تحريمه في سورة البقرة، وتأكيدات رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، وفي توضيحاته لأنواع الرباء، كل هذا من أجل تكوين مجتمع صالح، ومتماسك، لا يتسلط فيه قوي على ضعيف، أو يستغله من أجل ضعفه، ولا يكنز صاحب مال ماله لمنفعته الخاصة، أو لتحكم في قوت خلق الله.
بل لابد أن يعمل فيه ما يسعد المجتمع، ويحقق الرخاء والنماء فيه، وليفتح مجالات العمل لفئات عديدة من البشر، هم في حاجة إليه ليقتاتوا بعمل شريف، وجهد حلال.
وحتى لا يترك أمر البيع أو الشراء بدون قيود، أو التدابير بدون محافظة، نظم القرآن الكريم كما في آية الدين في آخر سورة البقرة[38]، ما يجعل صاحب المال متوثقاً على ماله، مطمئناً على حقه بأنه سوف يأتي إليه عند حلول أجله، فيحصل بذلك النفع للأخذ والمعطى. واطمئنان كل منهما على الذي له والذي عليه.
وهذا ما يتحقق أمناً اقتصادياً، لأنهم يقولون رأس المال جبان، لا يتحرك إلا في الأمن والطمأنينة.
ولأن المال هو موطن الأثرة لدى البشر، وانتظام الحياة في المجتمعات، وموطن الشحّ للنفوس، فقد روعي فيه أمور تطمئن وتريح، وتنظم الحياة مثل:
– كتابته والاستشهاد عليه: برجلين ثقتين، أو رجل وامرأتين ممن ترضى شهادتهم.
– تحديد الأجل.
– عدالة الكاتب والشهود.
– مراقبة الله بالنسبة للدائن والمدين، وأن تقواه سبحانه هي المحرك لكل منهما لأنها تردع عن الظلم والجور.
– الوصاية على من كان عليه الحق، إن كان سفيهاً أو ضعيفاً... أو لا يستطيع الإملاء في هذا الدين بأن يتولى ذلك عنه وليه العدل.
– عدم الإضرار بالكاتب أو الشهود، أو إخافتهم حتى لا يوجد حجاب دون التعاون بالخير وعليه.
– التأكيد على الاهتمام بالمعروف والتفضل من القادر على أخيه، وأن يكون التعامل حسناً، وعدم الإضرار بمن عليه الحق.
ثم تزيد تعاليم القرآن الأمر تمكيناً بالترغيب في البذل والصدقة والإحسان في أوجه الخير التي تريح أبناء المجتمع الإسلامي، وتزيل عنهم أسباب البغضاء والقلق والحقد والكراهية، وذلك في مثل قوله تعالى: {وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ}[39].
وقوله: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخَلَفِينَ فِيه}[40].
وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وقُلُوبُهُمْ وَجِلةٌ}[41].
أي ينفقون بسخاء ويخافون ألا يقبل منهم، فهم لا يريدون السمعة والجاه، بل يمتثلون أمر الله. وقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌ مَّعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[42].
وفي سبيل الإنفاق والحث على عدم البخل بالمال وتوضيح أوجه الخير التي يبذل المال فيها ومقارنة ذلك بالجزاء الذي يريح النفوس، وتطمئن به الأفئدة، جاء حث كثير في كتاب الله الكريم على ذلك، مما يستوجب دراسة مستفيضة، وتأليفاً واسعاً.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بلّغ شرع الله، واجتمعت القلوب نحوه قد زاد الأمر توضيحاً بثروة كبيرة تعين الباحث، وتريح المتلقي في مثل قوله: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول ا