إنَّ قضيَّة القضاء والقدَر مِن أهمِّ القضايا الَّتي ما زالتْ فيها الاجتهادات والآراء، وهي مدار علم الكلام، ومفترَق الطرق، التي سلكتْها المدارس والفرَق الإسلاميَّة.
وسيظلُّ الفلاسفة والمفكِّرون مختلفين، وإنَّ الاختلاف هو رُوح الفلسفة، وسبب وجودها، وعلَّة استِمْرارها.
والفلسفة هي البحث عن الحقيقة من كوْن وإنسان، وموقِف الإنسان الوجودي ومصيره بعْد الموت، ومدى حريَّته ومكانته في تَحديد هذا المصير.
ومؤلِّف هذا الكتاب يُبْحِر ويبحث ويجتهد في هذا العِلْم حتَّى يبطِّئ حدَّة الخلاف، ويصل إلى نتائج تُريح الإنسان في هذه المسائل، وإيقانًا منْه أنَّ الحلَّ الحاسم لهذه المسألة - وهي القضاء والقدر والجبْر والاختيار - واردٌ في القُرآن الكريم والسنَّة النبويَّة.
ولهذا؛ اتَّخذهما مرجعًا أساسيًّا، وأساسًا يعتمد عليْه في كل مسألة من المسائل.
بدأ بمقدِّمة شرح فيها كيف اتَّجه إلى دراسة الفلسفة، وانبِهار أستاذه الدكتور/ علي سامي النشَّار ببحثِه لنيل درجة الماجستير، وموضوعها: "مشكلة الحرية في الفكْر الإسلامي".
ويتناول في المقدمة عقيدة التَّوحيد الإسلامية، ودراسة الفكر الإسلامي، والإسلام كحضارة، والفلسفة الإسلامية، ثمَّ ناقش قضيَّة العلوم، ونادى بإعادة تأسيسها من القرآن والسنَّة.
بعد ذلك تحدَّث المؤلِّف عن قضيَّة إبليس والشبهات السَّبع، ومناظرة إبليس للملائكة، وردّه على الأقوال التي تعلَّقت بهذه المسألة، وخاصَّة الشبهةَ المزعومة بأنَّ إبليس هو البطل المأساوي، أو شهيد التَّوحيد المظلوم.
ثمَّ أشار إلى شبهات إبليس في مجال الأدَب، وتأييد بعض الأدَباء لهذه الشبهات، ورده عليْهم بالقرآن والسنَّة المطهرة.
تعرَّض أيضًا لشُبهات إبليس في الفكر الديني والفلسفي، والمواقف الثَّلاثة التي يقِفُها النَّاس من القدَر.
في الفصْل الأوَّل من الكتاب، الَّذي يحتوي على أكثر من أربعمائة صفْحة، كلُّها تتعلَّق بالبحث عن الحقيقة في القُرآن والسنَّة، ثمَّ الرجوع إلى القرآن الكريم كلِّه والسنة المطهرة؛ لمعرفة حقيقة قرآنية واحدة، ثمَّ إفراد الله بالإلوهيَّة والربوبيَّة يوجب إفراد الوحي كمصدر للعقيدة والشَّريعة، أيضًا الوحي والعقل ومنهج التَّأويل العقلي ثمَّ المعرفة بالوحي والمعرفة بالعقل، ضرورة توافق الحقيقة المستنبطة من البحث في القرآن، مع غيرها من الحقائق القرآنيَّة، وأخيرًا إخلاص النيَّة وسلامة القصد.
أمَّا في الفصل الثَّاني، فوضح الأسُس الاعتقاديَّة للحريَّة الإنسانيَّة، من حيث الإنسانُ والزَّمان والفطرة والإلحاد، ثمَّ أشار إلى حقيقة قرْآنيَّة عظيمة وخطيرة، وهي أن وجود الله - عزَّ وجلَّ - أمر بديهي لا يَحتاج إلى دليل، تعرَّض أيضًا إلى مسألة مناهضة الملاحدة بالأدلَّة العقليَّة، ثمَّ الفطرة، ونشْأة الدين، وظاهرة الإلحاد، ثمَّ مناهضة القُرآن الكريم للملاحدة بالتَّعجيز وبإثبات الفطرة، ثمَّ الأمانة والخلافة.
أشار أيضًا إلى الإنسان والعالم والإنسان والشَّيطان، والسماء والأرض والخلافة.
ثمَّ تعرَّض لقضية هامَّة، وهي: لماذا خلق الله العالم؟ ولماذا خلق الله الإنسان؟
في الفصْل الثَّالث، تحدَّث فيه عن حكمة الخلق وتفسيره، وخلق الحياة الدنيا، ثمَّ التجربة الابتِلائيَّة بالضَّرَّاء والسرَّاء، والجبر والاختِيار.
أمَّا في الفصْل الرَّابع، فتحدَّث عن الجبر والاختِيار في القرآن الكريم، وجوْهر الاختيار البشري في القرآن الكريم.
ثمَّ أشار في الفصْل الخامس إلى ركائز الاستِطاعة البشريَّة في القرآن الكريم، تحدَّث فيها عن الخلافة وإثْبات الاستِطاعة للإنسان، ونفى القُدرة عنه، ثمَّ معنى الفعل الإنساني وحدوده، تحدَّث أيضًا عن إثبات السنَن والمشيئة الإلهيَّة، ثمَّ العلَّة لا تخلق المعلول، ثمَّ طرح مذْهب المتكلِّمين في علاقة العلَّة بالمعلول، المعرفة والعلم أحد المقوِّمات الثلاثيَّة الرئيسة للحرية، تحدَّث فيها عن العلم والتكنولوجيا، وأشار إلى كتاب "الله" لعباس محمود العقَّاد عندما صرَّح فيه قائلاً: "ترقى الناس في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات"، وهو هنا غربي يتبع المدرسة الغربية العلمانية في تفسير نشْأة الدين.
ثمَّ تعرَّض لمسألة هامَّة، وهي مُحاولة الكافِر يوم القيامة نفى حريته في الدنيا، ثم الدين والعلم مقوِّمان للحضارة الإنسانية الصحيحة.
أمَّا في الفصل السَّابع، فقد وضَّح الدكتور الدسوقي القضاء والقدر قائلاً: القضاء بمعنى إرادة الله النَّافذة في الخلق والفعل في زمان ومكان، وبكيْف وبكم محدودين، والقدَر في القرآن الكريم والسنَّة: هو تقدير كلِّ شيء تقديرًا مسبقًا على خلقه وحدوثه؛ أي: تحديده ماهية وخاصية وصفة، كمًّا وكيفًا، زمانًا ومكانًا، ثمَّ تعرَّض للإرادة والأمر والاختِيار الإنساني والإرادة الإلهية، وقضيَّة الإسلام والإيمان والقدَر والتدْوين، ثمَّ القدَر والابتِلاء.
انتقل بنا بعد ذلك إلى العدْل الإلهي، والكمال الإنساني، وأنَّ الكلام على القضاء والقدَر يجب أن يكون من خلال حقيقة الابتلاء؛ لأنَّها الوعاء الذي يَحتوي هذا كلَّه، فيقدم لنا الأمر التشريعي الإلهي والأمر الكوني متناسقَين، بلا تضارب أو تناقض أو غموض أو لبْس أو إيهام، كما يقدِّم لنا الجانب الاختِياري من كينونة البشَر وأفعالهم، في تناسُق تامٍّ، وبلا تعارُض أو تناقُض أو تضادٍّ.
تعرَّض المؤلِّف أيضًا إلى الحرِّيَّة السياسيَّة، وحريَّة العقيدة للأفراد والشُّعوب، ثمَّ الحرية الاقتِصادية، والحرية الاجتماعيَّة، وتعني: كل المواطنين جميعًا سواء في الحقوق والواجبات بلا تَمييز طبقي، وأخيرًا الحريَّة السلوكيَّة.
أمَّا الفصل التَّاسع والأخير، فقد اختتمه الدكتور فاروق بالنَّتائج الغيبيَّة للحرية الإنسانيَّة، أشار فيه بأنَّ الجنَّة للفائزين وجهنَّم للخاسرين نتيجة حتميَّة للابتلاء، تحدَّث فيه عن الحريَّة والتَّحلل من شرع الله وعبوديَّته، وسبيل الخير وسبيل الشَّرّ والجنَّة والنَّار، والخلافة في الدُّنيا والآخِرة.
عزيزي القارئ، إنَّ علم الكلام يقوم على الخلافات والتشقُّق، والنزاع والتعصُّب الأعمى؛ لذا اخترت لك هذا الكتاب لكلِّ الأعمار من شباب ورجال ونساء، ليكون عونًا لهم على تفهُّم وإدراك واستيعاب هذه القضايا الهامَّة، التي كثر فيها الكلام فتشقَّقت الوحدة إلى فرق، وليكن هذا الكتاب أيضًا بين يدَي الباحثين والمجتهدين والمثقفين في الفكر الإسلامي؛ ليكون لهم طريقًا علميًّا واضحًا من طرق العلوم الإسلاميَّة.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وآمنوا به وآمنوا بقضائه وقدره فإن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان فلن يتم الإيمان حتى يؤمن العبد بالقدر خيره وشره ولا يتم الإيمان بالقدر حتى يؤمن الإنسان بأربعة أمور الأول علم الله المحيط بكل شيء فإنه سبحانه بكل شيء عليم.
عليم بالأمور كلها دقيقها وجليلها سرها وعلنها فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء الأمر الثاني أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة من قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فإن الله لما خلق القلم قال له اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب ما هو كائن فكتب بعلم الله وإذنه ما هو كائن إلى يوم القيامة فما كتب على الإنسان لم يكن ليخطئه وما لم يكتب عليه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} فعلى العبد إذا جرت الأقدار على ما لا يحب أن يرضى بقضاء الله وقدره وأن يستسلم للقضاء المكتوب فإنه لا بد أن يكون ويقع فلا راد لقضاء الله وقدره لكن الفخر كل الفخر لمن يقابل ذلك بالرضا ويعلم أن الأمر من الله إليه وأنه سبحانه له التدبير المطلق في خلقه فيرضى به ربا ويرضى به إلها وبذلك يحصل له الثواب العاجل والآجل فإن من أصيب بالمصائب فصبر هدى الله قلبه وشرح الله صدره وهون عليه المصيبة لما يرجو من ثوابها عند الله ثم إذا بعث يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى الأجر والثواب وجد أجر مصيبته وصبره عليها مدخراً له عند الله وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وكما أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء فكذلك يكتب سبحانه ويقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة كلها كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وكذلك يكتب على الإنسان وهو في بطن أمه ما سيجري عليه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق فقال ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) وهذا الرجل الذي كان يعمل بعمل أهل الجنة ثم ختم له بعمل أهل النار إنما كان يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ولم تكن نيته في الإخلاص والقصد نية مستقيمة فلذلك عوقب بسوء الخاتمة كما جاء ذلك مفسرا في حديث آخر. الأمر الثالث مما يتم به الإيمان بالقدر أن تؤمن بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فمشيئة الله فوق كل مشيئة وقدرته فوق كل قدرة وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الأمر الرابع أن نؤمن بأن الله خالق كل شيء ومدبر كل شيء وأن ما في السماوات والأرض من صغير ولا كبير ولا حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله وخلقه فمن الأشياء ما يخلقه الله بغير سبب معلوم لنا ومنه ما يكون سببه معلوما لنا والكل من خلق الله وإيجاده فنسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجعلنا وإياكم ممن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً وأن يقدر لنا بفضله ما فيه صلاحنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وآله وأصحابه واتباعهم إلى يوم الدين.