يوم الجلاء والاستشهاد الحضاري
الحمد لله وحده صدق وعده ونصر عبده ، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ، لا شيء قبله ولا شيء بعده . ونشهد أن لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليكون للعالمين نذيرا.
(قل ياعباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)1 ؛ أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلامه تعالى قوله : (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين)2.
ياأمة محمد إن أصابتكم الجراح فقد مس المسلمين من قبلكم ممن نصروا رسول الله جراح وجراح فما ضعفوا وما وهنوا وما جبنوا.
ياأمة الاسلام إن أصابتكم الجراح فقد أصابت عدوكم أيضا فكنتم في رضا الرحمن وكانوا في سبيل الشيطان ، وهذه الحياة الدنيا إنما هي عرض حاضر وظل زائل يكون بين أولياء الله وأعدائه ؛ بخلاف الآخرة فإنها خالصة للذين آمنوا..
ويا ديار الاسلام 3 : ذري ترابك ما البأساء دائمـــة وليس يقنع حتى نفسه الفنــد
فلا تصهين من ضلوا بضائرنـــا ولا التـأمرك يغرينـا بما يعـد
ذري ترابـك نحن الأوفيـاء لـه برغم من خانه عمدا ومن شردوا
إن أرجع الحقد عجل السامري فما أخزاه ربا وأخزى من له سجدوا
ياديار الاسلام : ذري ترابك في أجفان من رقــدوا هيهات إلا بها أن يذهب الرمـد
قبل مايقارب نصف قرن ومع نسمات الربيع المضمخة بنفحات الرجولة والفداء ومع شقائق النعمان المصبوغة بدم الشهداء ومع وشوشات جداول الماء تروي عشق أمة للكرامة وحكايات البطولة والعزة والاباء ؛ مع زقزقات العصافير وسنابل القمح وأمواج النور والضياء ومن رحم البطولة ومهج الرجال وشموخ الحرائر ، ومن النار والبارود وأزيز الرصاص ومشانق الشهداء ، ومن التعاون والتكاتف والإيثار والكرم والبذل والنقاء ، ومن بيوت العبادة وبالإخلاص والإيمان .. من المحاريب وبالعقيدة والقرآن .. بعناق البطولة في غوطة دمشق وسهول حوران .. في جبل العرب وجبال الساحل وأراضي الجزيرة والفرات .. في حلب الجهاد وضفاف العاصي وفي كل سهل وجبل وواد ومدينة وقرية وساح ميدان .. من كل ذلك : ولد استقلال سورية وكان يوم الجلاء.
يوم الجلاء وفجر الاستقلال ؛ صنعته أيد كثيرة مخلصة تصدت للمحتل الفرنسي البغيض فما أذاقته طعم النوم ولقد احتل الفرنسيون الغاصبون هذه الديار ، واحتل بقية المستعمرين بلاد العرب والمسلمين وتوازعوها نهبة وأسلابا ؛ فهنا استعمار بريطاني خبيث وهنا طلياني حاقد وهنا وهنا ... حتى مابقي شبر من بلاد العرب والمسلمين إلا وهو نازف الدماء ؛ أسير الظلمة ؛ ودارت الأيام فإذا بهذه الأمة لا تنام على ضيم ولا تغفر لجلاد ولا ظالم ولا محتل ولا غاصب ، وإذا بالأرض تنفجر تحت أقدام المحتلين وإذا بدماء العزة والكرامة تهدر في القلوب ؛ بعد أن ظنوا الأمة قد ماتت ، وكيف تموت أمة يقول لها ربها (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)4 ؛ قال الامام القاسمي: " أي ان كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فان الايمان يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه" . إن حقد المستعمرين ما أبقى فيهم خلقا ولا مروءة وعندما دخل الجنرال الصليبي غورو دمشق مااستطاع إلا أن يخرج أحقاده الهائلة فذهب إلى قبر القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي وركله بقدمه قائلا : "ها قد عدنا ياصلاح الدين" وأتى أحفاد صلاح الدين فشلوا يد الاستعمار الفرنسي القذرة في هذه الديار ، ومن يعيش لحظته الفانية فقط فانها تسكره ويعربد بها ، والذين يحقدون على هذه الأمة ويرون ما أصابها من جراح فانهم يظنون أن هذا هو الختام وأن هذه الأمة قد وئدت والى الأبد.
والحمقى وحدهم يعيشون اللحظة الفانية ؛ أما العقلاء فيقرؤن كل التاريخ! ومن يقرأ تاريخ المسلمين فسيفاجئه الثبات العظيم لهذه الأمة ، وعليه أن يحسب لها ألف حساب وحساب ؛ فهي لن تموت بإذن الله وصدق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول : (لا تزال عصابة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)5 . ومن لا يعظه هذا فليقرأ تاريخ هذه الأمة في وجه طغاة الفرس والروم .. في وجه المغول والتتار والصليبيين .. في وجه التغريب والتخريب .. في وجه الاحتلال والمعتدين .. وإن كان من آفة فينا أيها الناس فهي من داخلنا ، ولو اجتمعت أمم الأرض علينا وصفنا واحد لما استطاعت أن تنال مبتغاها ولو أن الأمة أصيبت بألف نازلة لما استطاع تقويضها أحد. مادام فقه خالد رضي الله عنه ساريا فيها لما قال لقائد الروم: "جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة". وأود أن أشير إلى أمر شديد الأهمية يجب أن يفقهه المسلمون ، وهو أن حب الموت لا يعني حرفية في الفهم ورغم أن حب الموت والشهادة والاستشهاد يبلغ أعلى صوره في ساحة الجهاد ؛ إلا أن فقه المؤمن الواعي يمتد ويمتد ليشمل كل مرافق الحياة امتثالا لأمر النبي صلى الله