قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، بديع الصنع خالق الأرض والسماوات ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليخرج العباد إلى النور من الظلمات.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى : (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)1 أما بعد : فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن من كلامه تعالى قوله : (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)2.
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم : (فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن ، والرحمة منها خصوصية) . كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : ( فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلنا من أهله ) وقد جاء التذكير بفضل الله ور حمته بعد قوله تعالى : (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)3 وشفاء الصدور إنما هو معافاةٌ من أدواء القلب وظلمته ؛ من الجهل والغي والظلمة والفساد ؛ مما يستقله العبد في حياته فإذا قيل له : هذا ركب الانتقال من دار الزوال إلى دار البقاء تيقظ وعلم غفلته في عشق الدنيا ومصاحبة أهلها ، وأما محب الآخرة وطالب الأنس بالله فيقول قولَة معاذ بن جبل لما قيل له : ما تشتهي قبل موتك؟ قال : ليلة باردة أقومُها كلها ، أو قولَة فالح سألوه : ما همك من الدنيا؟ قال : ركعتان تكونان خالصتين لله تعالى.
طالب الدنيا همه في المال والجاه والدور والقصور والشهرة والمنصب والشاء والحذاء والكساء والنساء ، وطالب القرب من الله شأنه : إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ؛ فيا ابن آدم لا يضادك في الله تعالى إلا نفسك ؛ انظر إلى نفسك إن أتتك الذكرى قال تعالى (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك )4 ؛ أما المعرض والهالك فشأنه ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم )5.
الفرح بالله مقام عظيم ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )6.
عيد الناس في الطعام واللباس الجديد والزيارات والكلام ، وعيد العارفين في صدق التوبة وحسن الالتجاء وقبول الطاعات والسرور بلقيا المؤمنين يتصافحون ، وكل منهما يقول لصاحبه : اللهم اغفر لي ولأخي هذا ، وليس في قلب واحد منهما غل لصاحبه ؛ فأين العيد ياقوم؟ لا تجعلوا المعرفة علة في أمنكم وأمانكم.
معرفة من دون عمل وبال ، ومن ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بُعدا. كل إنسان أدرى بنفسه. إذا قيل له : قال الله ؛ قال رسول الله ؛ فأين موقعه وأين التزامه؟ وأين سروره واستبشاره؟ ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون )7.
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المنـازلا
ولا تنتظر بالسير رفقـة قاعـد ودعه فان الشوق يكفيك حاملا
إياكم من أحوال التالفين : (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون)8.
أيها الناس دعوى الفرح بالله وطاعته سهلة ؛ أما الحقائق فلا يثبت فيها إلا أهلها. لما عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه وقال : من يأخذ هذا؟ مدوا أيديهم. فلما قال : بحقه. مدها أبو دجانة رضي الله عنه وحده. لا ينفع واحدكم وعظٌ مفتاح دخوله ملقى في دهليز هواه.
العبرة لا تحصل ممن أقفل قلبه.
واحدكم يقول : أحب البذل ، وهو يفسر البذل كما يهوى ويحسب نفسه من أهله.
دعوني من زخارفكم! البذل ما أعلمكم أنا إياه ؛ يعلمكم إياه أصحاب المعلم الهادي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا وضعت الجواهر الصحيحة ظهرت المزيفة.
من منكم بذله وفرحه بالله مثل أبي بكر؟ وقد حمل كل مايملك فيسأله صلى الله عليه وآله وسلم : ماأبقيت لعيالك يا أبا بكر؟ فيقول له : أبقيت لهم الله ورسوله9. لا أطالب بمنزلة أبي بكر! بل بمنزلة عمر وقد أحضر نصف ماله ، وعندما قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يارسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي.. قال: لا ياعمر حتى أكون أحب إليك من نفسك ؛ فعاد إلى نفسه فألقاها في بحار الحب لله والتجرد والإخلاص ثم أخرجها فطرحها بين يدي رسول الله : يارسول الله لأنت أحب إلى حتى من نفسي ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : الآن ياعمر10.
لا أطالب بمنزلة عمر ؛ بل بمنزلة المرأة من بني دينار التي لما أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل يوم أحد وخرج النساء والصبيان ليطمئنوا عليه وقد قتل أبوها وزوجها وأخوها في المعركة فلما قابلت الجيش في الطريق قالت : مافُعل برسول الله ؛ قالوا : خيرا هو بحمد الله كما تحبين ؛ قالت: أرونيه حتى أنظر إليه ، فلما رأته قالت : كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل (أي صغيرة)11.
لا أطالبكم بمنزلة المرأة العظيمة بل بنية من حُبسوا عن تبوك فلما عاد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر 12.
لا أطالب بنية من حبسوا عن تبوك بل بإقبال الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متى الساعة؟ قال : وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله ؛ فقال : (أنت مع من أحببت). قال أنس فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أنت مع من أحببت). قال أنس : فأنا أحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي اياهم وان لم أعمل أعمالهم13.