تدور الدنيا بالإنسان . وتتبدل به المكنة , ويتناوبه الزمن في تقدم دائم , ولا فرصة للرجوع بالزمن أو الفكاك منه , فوجوده منذ البداية لم يكن برغبته وكذلك انعدامه , وما بين وجوده وانعدامه فترة ـ وإن طالت ـ وجيزة أكاد أعدها باللحظات , وبين اللحظة والأخرى ينخرط الإنسان في أمور قد يُعتقد أن صاحبها هو مدبرها , وأحيانًا تنسب لغيره , وأحيانًا يسقطها الإنسان على الزمن أو القدر أو الظروف , فإذا حل بالإنسان ما يسعده اغتبط ولفته الدنيا بحريرها , وإذا حل به ما يحزنه اغتم ولفته الدنيا بملاءة سوداء لا بصيص نور منها , وإذا حسب الإنسان ذلك كله وجده ضئيلاً جدًا , بيد أن ما يمكن أن يبدد ذلك كله هو القلم .
القلم الذي أعنيه هو الحب .
نعم الحب في أبسط صوره , وهو التغني في المحبوب في أعظم صوره , وذلك عندما يكون الله سبحانه هو القبلة التي يتغنى الإنسان فيها , وعلى الأرض لون آخر لا يسموا إلى ما سبق إلا أن له سموه الخاص , إنه الذوب في ذات المحبوب من نفس الجنس , والذوب في ذات المحبوب ( على وجه الإطلاق ) يبدل فيك كل شيء .
إنه يجعلك ترى الأشياء بمنظور أوسع وأعمق , فعندما يذوب حبيبان يستحيلان مدادًا طاهرًا مزاجه الذهب والفضة وعصارة الأزاهير الربيعية والثمار المدارية وقد أذابها بَرَدٌ بطلعة نهار لا يكف عن الطلوع وليل لا ينحسر سحره وسهره , كل ذلك تنضجه نار الشوق حتى يصير مرآه نورانيًا يشع لتراه الدنيا ويستنير العشاق به وشوق الأحبة من هذا النوع لا يسببه البعد أبدًا . ولكنه شوق لا يتغير في حلٍ ولا ترحال , لا في قرب ولا في بعد , إنه وهج لا يخبو .
لا تعتذر بأنك لم تجد من تحب أو من تبحث عنها , وكذلك أنتِ , فعلى كل حي أن يحب , يعشق , يهيم , يذوب حتى لو كان ذلك في مخيلته , وبين جنبات صدره وخلجات ذاته , كلنا يعشق صورة في خياله , وقلما تتحقق هذه الصورة .
إذا توفر لك قلب ينبض وعقل يدرك ومخيلة ترسم وعين ترى تكون قد ملكت مقومات الحب , وبقيت المصالحة مع النفس , إذا اجتمعت هذه العوامل كنتَ مؤهلاً لأن تسعد , ولو مع نفسك التي صالحتها , ويا لها من سعادة . عندها تجد المداد ينسكب في القلب لتنقش على صفحة حياتك أجمل الكلمات فيما اصطلحنا أن نسميه شعرًا , وهو في اعتقادي غزلٌ للشاعر والأحاسيس في نسيج نادر التقليد , فهو غزلٌ على مغزلِ يدوي , ونسج تصبغه التجربة الذاتية , ويلونه الدم الجاري في العروق , إذا بلغت هذه المرحلة تأكد أنك وصلت إلى آخر العالم , إنك فريد من نوعك لأنك ستكون لسانًا للآلاف من الذين فشلوا في تحقيق ما حققته , وعندما يطلعون على ما كتبت سيقولون هذا ما حاولنا أن نكتبه , هنا يقال : إنك شاعر . عندها ستكتب عن الأرض والسماء , والضوء والشجر والطفل , والأم والغربة والوطن , فكل ذلك كائن بداخلك ما دمت قد أحببت ...... ذبت .