من أنا : تحديد الهوية والولاء والانتماء
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا و يرضى ، و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و نشهد أن سيدنا محمداً عبد الله و رسوله جاء رحمة للعالمين ، عباد الله أوصيكم و نفسي بتقوى الله (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً و طمعاً إنَّ رحمت الله قريبٌ من المحسنين)1 ، أما بعد فإن الله تعالى يقول في محكم كتابه : (و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم و لعلهم يتفكرون)2.
وآفاق التفكر واسعة شاملة و استمدادها من كتاب الله يعطيها العُمق المرجعي الضروري للالتزام و يحفظ الأرض صالحة و يقيها من الفساد.
أحد محاور التفكر هو الشروط اللازم توفرها من أجل بناء تربوي سليم للنفس البشرية ، و هذه الشروط ينبغي تحققها منذ بداية الوعي أي من الطفولة المبكرة ، ولكن ربما أكثرنا لم تُصَغْ عنده بشكل واضح فنحتاج جميعاً إلى إعادة تقييمها في نفوسنا ، وفقْدُنا لها يفتح ثغرات في أي بناءٍ لأطفالنا،وفاقد الشيء لا يعطيه.
هذه الشروط التي سنتحدث عنها تعطي النفس توازناً و استقراراً و تمنع من الاغتراب النفسي الذي يهيئ لتبني أشكال منحرفةٍ من السلوك ، أو الانسلاخ من القيم التربوية السليمة ومن العقائد الصحيحة.
وهذه الشروط هي :
1ًـ تحديد الهوية : من أنا؟ والعلاقات الأولى للإنسان أو الطفل ترسم له ملامح ذاته و ترسي له التوازن في خطوات تعامله مع الآخرين ، بشكل طيب أو خبيث متسامح أو ناقم منفتح أو مغلق واعٍ أو ساذج جبان أو شجاع ، وفي هذا يقول الإمام الغزالي: "اعلم أن الصبي أمانة عند والديه و قلبه جوهرة ساذجة و هي قابلة لكل نقشٍ فإن عُوِّد الخير نشأ عليه و شاركه أبواه و مؤدبه في ثوابه و إن عُوِّدَ الشر نشأ عليه و كان الوزر في عنق وليه فينبغي أن يصونه و يؤدبه و يهذبه و يعلمه محاسن الأخلاق و يحفظه من قرناء السوء".
إن هذه التربة الاجتماعية الإيجابية ستعطي توازناٍ للطفل حتى آخر حياته . و هذا الأمر أصوله في الحديث الشريف : "كل مولود يولد على الفطرة "3 .
يحدد القرآن الكريم هوية المسلم بشكل واضح تماماً ؛ قال تعالى: (قُل إن صلاتي و نُسُكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)4. و إن كثيراً من الإشكاليات بين الآباء والأبناء نابعة من غياب الهوية الصحيحة ، ونلاحظ أحياناً أن الأبوين في الأطوار الأولى لحياتهما الأسرية يكونان مثلاً غير متدينين فيعطيان الأولاد هوية سلبية ، وعندما يصبح الأولاد في سن المراهقة مثلاً يتحول الوالدان تدريجياً إلى الدين ، و يجدان صعوبة هائلة في تحويل الأبناء معهما ، السبب أن الهوية المزروعة كانت سلبية أصلاً ، ولا يمكن تحويلها إلا من خلال قناعات عميقة أو تجارب خاصة لا تَقِلُّ عمقاً عن تجارب الأبوين ، وكذلك الحال في أبوين كانا متدينين إلى حد التنطع مثلاً ثم وصلا إلى نوعٍ من التوازن ، وهما يعانيان من أولاد متنطعين يحاولان رد المعادلة إلى التوازن فلا يفلحان إلا بعد جهد وقد لا ينجح الأمر.
السبب أن الهوية الأصلية تكون لها بصمات عميقة جداً في النفس البشرية ، لذا فإن التأثير على نشأة الطفل الأولى تدمغه بهوية محددة وهذا أمر شديد الخطورة لا يقل خطراً عن التلاعب بالجينات الوراثية ، ويحدثنا القرآن الكريم كيف أن فرعون لما علمَ أنَّ طفلاً سيولد وتكون له هوية غيرَ ما يريد ؛ عمل كل ما يستطيع لطمسها حتى صار يقتل كل الأطفال .
2ًـ الانسجام الداخلي أو تَقَبُّل الذات : إن الإنسان لا ينقطع عن التفكير في تكوينه الداخلي ، والتقبل الخارجي له ؛ فإن بنيت قناعات عميقة داخلية مقنعة أعطت صاحبها الاستقرار اللازم للنمو السليم ، والذين يتنقلون في حياتهم كثيراً بين مدارس شتى عندهم (غالبا) مشكلةُ عدم الانسجام الداخلي ، وهذا الأمر إذا لم يصل صاحبه إلى نتيجة فيه فقد يتحول إلى نوع من الوسواس ، وتُقَدم بعض الأفكار المعاصرة نماذج شديدة التشويه للنفس البشرية تحت ستار الموضوعية و الحقيقة الحرة و البحث عن الصواب ، وتحت أسماء طنَّانَة ثمارها الوحيدة هي نوع من التفكيك النفسي للأفراد في دوامات حيرةٍ متتالية وردود أفعال تفكك كل موجود ولا تعطي أحداً أيَّ مقصود ، وقد تصبح الأمور أخطر عندما يصبح التفكك النفسي تياراً و ليس فقط نماذج فردية محدودة . ويتعلق الموضوع بالمعيار الذي يسير الإنسان من خلاله في تقييم نفسه والتعامل مع الآخرين ، والقرآن الكريم ينبه بوضوح كامل إلى المعيار الأساسي لتقييم أي عمل داخلي أو خارجي في قوله تعالى: (يا أيُّها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير)5 ؛ فتقبل الذات عن طريق التقوى يغني الحياة بطريقة فيها الخير للجميع ؛ أما المبادئ التي تركز على الفردية الطاغية أو الجماعية المفرطة أو النفعية أو الوصولية فهي لا تؤدي إلا إلى خراب فردي و جماعي ، ويحدثنا الإمام الغزالي عن قصة لطيفة جرت لسهل بن عبد الله مع خاله محمد بن سوار وكيف بنى الانسجام الداخلي فيه إذ يقول: "أنه كان ابن ثلاثِ سنين و هو ينظر إلى خاله يصلي في الليل فقال له خاله يوماً : ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فسأله: كيف أذكره؟ فطلب منه أن يقول بقلبه عدة مرات: الله معي ؛ الله ناظر إليَّ ؛ الله شاهدي ؛ فقال ذلك عدة ليالٍ ثم أعلمه ، فزاد له العدد. قال سهل: ففعلت ذلك فوقع في قلبي حلاوته فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودُم عليه إلى أن تدخل قبرك ؛ فلم أزل على ذلك سنين فوجدت له حلاوة في سري ؛ ثم قال لي خالي: يا سهل من كان الله معه ، وهو ناظر إليه وشاهد عليه ، هل يعصيه؟ إياك و المعصية. وكبر سهل وحفظ القرآن وهو ابن ست أو سبع سنين ثم صار من الصائمين الزاهدين و ربما قام الليل كله" ، ودخل أبواب تاريخ هذه الأمة. أكثر النزعات السلبية و العدوانية عند الأطفال تأتي في أيام الطفولة الأولى نتيجة خِبرات مفزعة. الطفل الذي يعامل بقسوة تُغرس فيه نزعاتٌ إجرامية لأنه يتعلم أنَّ عند الناس خيراً وشراً ،وهو ما لا تسمح نفسيته بعدُ بتفهمه وهذه الحقيقة أكبر من استيعاب الطفل في مراحله الأولى لذلك تكون مرعبة له ومحبطة وتَخُطُّ في داخله ندبات قد لا تلتئم. إنَّ الحزم شيء جيد و ضروري في التربية لكن القسوة غير مناسبة للطفل ، وأحد الأمور السلبية جداً هي حرمان الطفل من طفولته قسراً وكرهاً ، ومن الأغلاط المتكررة تخويف الطفل بأن الله سيحرقه بالنار ، والسليم هو