تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)18، وقد نعيش ونموت ولا نستطيع أن نفعل شيئا سوى الكلام ، ونحن نعذر إلى الله بما لا نستطيعه ؛ أما ما نطيقه فسنبقى نقوم به حتى نلقى الله ، وسأبقى أتكلم عن الجهاد حتى أموت لأني لا أستطيع الآن سوى الكلام ، وسأزرع ذلك في قلب ابني وسأقول له: لقد كنا جيل جبن يا بني .. جيل كلام .. تكلمت ما استطعت وأنا خجل من الله ، وهذه راية الجهاد تنتظر من يحملها فشمر إليها ، وإياك ثم إياك أن تكون مثل أبيك الجبان.
لقد احتلوا بلادنا لأن أباك كان يتكلم ، وفي السامعين من لا يريده حتى أن يبقي الجذوة في القلوب بالكلام. وذهبت فلسطين والصومال وكشمير وطاجيكستان والفيلبين والبوسنة وبلاد كثيرة أخرى ونحن نتكلم ، وهيمنت الولايات المتحدة ونحن نتكلم ، وأصبحنا عبيدا للأميركان ونحن نتكلم وحرفت مناهجنا ونحن نتكلم وفرض اليهود الكفرة علينا ما يريدون ونحن نتكلم.. حتى ضجت الأرض منا.. نحن جبناء يا بني.. تركنا ديننا فأذلنا الله.. لحقنا شهواتنا فأذلنا الله.. آثرنا الفانية فأذلنا الله.. لحقنا شهواتنا فأذلنا الله.. ظلمنا بعضنا فأذلنا الله.. فإياك يا بني أن تكون مثلنا.. هذه طريق العزة للأمة فاسلكها.. لابسا كفن الموت وعطر الأرض من دماك.. علك ترفع عنا عارا لازمنا مذ تركنا طريق الجهاد.. ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا.. ما تركناه البارحة يا بني بل منذ عشرات السنين.. ولكننا على حياء من الله لا نيأس.. وكما ضاعت الأمة ستعود.. عندما لا يبقى فيها جبان ولا ذليل ولا منافق ولا رعديد.
بعد غد ذكرى ولادة نبيكم صلى الله عليه وسلم فبماذا تتهيئون لها؟ بالأغاني أم بالنيات الصالحة! بالتوبة أم بحلوى الملبس! بالرياء أم بالإخلاص؟ بالقصص والشطحات والطامات أم بالرجوع إلى العقيدة والتمسك بالكتاب والسنة؟ بالمنامات والأحلام أم بالانتباه والتشمير واليقظة؟ تدخل مجالس بعض الناس فتظن أنهم قادمون من نصر عظيم حررت فيه الأندلس! وتصغي إلى قصصهم فترى سُكرا بالدنيا ، وتفحص معلوماتهم عن الدين فإذا نصفها شطحات ومنامات ، وقلت لنفسي ليتهم استعملوا حتى المنامات للإيقاظ لا للتخدير ، وسألني أحدهم كيف؟ فقلت اسمع يا هذا: ذكر المسعودي في مروج الذهب أن موسى بن صالح وكان واليا ؛ حدث ببغداد في أيام المتوكل العباسي أنه رأى في منامه كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: أطلق القاتل (وبالمناسبة فالمنامات لا يؤخذ منها أي حكم شرعي وسنتكلم عن الأمر تفصيلا عندما نصل إلى ذلك في بحوث العقيدة) المهم ارتاع موسى بن صالح ونظر في كل الكتب لمن زجوا في السجون فلم يجد فيها ذكرا لقاتل ، وأحضر السندي وعباس وكانا مسؤولي السجون زمان المتوكل وسألهما: هل هناك من زج في السجن لاتهامه بالقتل؟ فقالوا: نعم وقد كتبنا به ؛ فأعاد النظر فوجد الكتاب بين القراطيس ، وإذا برجل قد شهد عليه بالقتل وأُمر به فأمر بإحضاره ، ودخل عليه الرجل وبه روع شديد! فقال موسى بن صالح: إن صدقتني أطلقتك ؛ قال الرجل: كنت وأصحابي نجتمع كل يوم فنرتكب كل حرام ونستحل كل محرم ونفجر ونشرب الخمور ، وجاءتنا يوما عجوز تعيننا على الفساد ، وقد خدعت فتاة بارعة الجمال فأحضرتها معها ؛ فلما توسطت الفتاة الدار وانتبهت لمجلس الفساد الذي حولها ذعرت وصرخت صرخة عظيمة فبادرت إليها أيها الوالي من بين أصحابي فدفعتها إلى غرفة من الغرف وهدأت روعها ، وسألتها عن قصتها فقالت: اتقوا الله فيَّ فإن هذه العجوز قد خدعتني وأعلمتني أن عندها مجوهرات نفيسة شوقتني للنظر إليها ؛ فجئت معها واثقة بقولها ؛ فهجمت بي عليكم وأنا لا أدري ، وأنا من ذرية نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ أنا من فاطمة ... أنا من بنات الحسن بن علي رضي الله عنهم. فاتقوا الله واحفظوهم فيَّ ؛ قال الرجل: وضمنت خلاصها وأعطيتها عهدا بأن لا تمس بسوء بيننا ، وخرجت إلى أصحابي وعرفتهم بقصتها وقلت لهم: يا قوم اتقوا الله فهذه من بنات نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) وغلب الران الذي على قلوبهم كلامي وكأني أغريتهم بها فقالوا (لعنهم الله): لما قضيت حاجتك منها أردت صرفنا عنها ، وبادروا إليها ؛ فقمت دونها أدافع عنها وازدادوا تكالبا وأنا أقاتلهم وحدي وخشيت أن يغلبوني فيصلوا إلى بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمدت إلى أكلبهم على هتكها فقتلته ، وقاتلت الباقين حتى خلصتها سالمة وأخرجتها من الدار وقلت الحقي بأهلك فقالت: سترك الله كما سترتني وكان لك كما كنت لي. وأقبل الناس والجيران والجند فتبادروا إليَّ والسكين في يدي والدماء على ثيابي والمقتول يتشحط بدمه فأُخذت به قال الوالي: قد عرفت ما كان من حفظك للمرأة ورهبتك لله ورسوله ؛ قال السجين: فوحق من وهبتني له لا أعاود معصيته أبدا ولا أدخل في ريبة حتى ألقى الله ، وأخبره الوالي بالرؤيا وأن الله لم يضع له عمله. من يقص على الناس مثل هذا يشغلهم بتفصيلات المنام والديار والثياب والوالي والحجاب ، ولا يشير لهم إلى أهم نقطة في الموضوع كله! احفظوا بنات نبيكم .. احفظوا بلاده .. احفظوا دينه وعقيدته ولو لقيتم الحتوف ، واخلعوا ذل نفوسكم وجبنها وقعودها.
بعد غد أيها الناس ذكرى ولادة نبيكم ، وإن لم تقدروا على الجهاد قدرتم على حمل العلم إلى الناس ، وهي أمانة في عنق كل فرد منكم فأدوها وقد اخترت لكم بعض الأحاديث عن رسول الله ؛ فافهموها واحفظوها وعلموها الناس فهي لكم صدقة جارية.
الحديث الأول ؛ حديث: (إنما الأعمال بالنيات ... )19 وهو الحديث الأول في رياض الصالحين.
الحديث الثاني ؛ قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه20: باب التوبة من رياض الصالحين وهو الحديث الواحد والعشرون.
الحديث الثالث ؛ قصة الغلام المؤمن21: باب الصبر من رياض الصالحين وهو الحديث الواحد والثلاثون.
وفيها فقه كثير وعبرة وعظة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
- ألقيت هذه الخطبة بتاريخ الجمعة 9 ربيع الأول 1414هـ/ 27 آب 1993.