المسجد: القاعدة المادية لبناء الأمة المسلمة
الحمد لله أحمده و أستعينه وأستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره ، وأعادي من يكفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ؛ أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة. من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا ، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلمُ المسلمَ أن يحضَّهُ على الآخرة ، وأن يأمره بتقوى الله. أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن من كلامه تعالى قولَه: (إنما يعمُرُ مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )1.
من المسجد انطلقت الأمة المسلمة لتملأ الحياة سعادة وتوازنا وخيرا ، وقد كان المسجد أول مؤسسة أقيمت في الدولة المسلمة بعد الهجرة النبوية وشارك المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في بنائه مع أصحابه وهم يرتجزون كما ذكر البخاري في صحيحه 2:
اللهم انه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة
والمسجد يوم بني كان قلب المجتمع المسلم ودماغه ، وهو يعكس في كل عصر مستوى التفاعل بين المسلمين والعقيدة والحياة ، فإن رأيت حيوية ودأبا وشمولية في دور المسجد فاعلم أن الأمة بخير وإن رأيت برودة وفتورا وانكماشا ومحدودية فاعلم أن في حياة المسلمين ثغرة واسعة ونقصا في إدراك دور مؤسساتهم ومعاقد ثباتهم وتوازنهم.
ومما يبين أهمية دور المسجد ؛ الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن ، فإن الله شرع لنبيكم r سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادَى (يستند على غيره لشدة ضعفه) بين الرجلين حتى يقام في الصف)3 . ومن فاتته تربية المسجد رأيت في التزامه ثغرات واسعة لا تخفى وجماع الخير في ارتياد المساجد. ويذكرنا الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بثمار ذلك فيقول: من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثماني خصال: آية محكمة وأخا مستفادا وعلما مستطرفا ورحمة منتظرة وكلمة تدله على هدى أو تردعه عن ردى وترك الذنوب حياء أو خشية.
بل إن تراكم الخير عند مرتاد المسجد كفيل بأن يجرف ويبعد عنه الذنوب. وقد أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله r قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ، قالوا: بلى يا رسول الله ؛ قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخُطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة ؛ فذلكم الرباط4 . بل إن انحسار دور المسجد أدى إلى آفات عظيمة أصابت المسلمين منذ قرون. فقد تشتتت قواهم وتباينت أفكارهم وكلت عزائمهم وتضاربت جهودهم ؛كما قال شاعرهم5 :
كل فرد فينا إمام ولكـ ـنَّ جميع الأفراد دون إمام
ولِما رآه من هزال الفهم لدور المسجد صَدَعَ أديب القرآن الرافعيُ رحمه الله بحقيقة دور المسجد فقال: (فالمسجد في حقيقته موضع الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يزيغ به الاجتماع ؛ هو فكر واحد لكل الرؤوس ، ومن ثم فهو حل واحد لكل المشاكل وكما يُشَقُّ النهر فتقف الأرض عند شاطئيه لا تتقدم ؛ يقام المسجد فتقف الأرض بمعانيها الترابية خلف جدرانه لا تدخله) ويتابع فيقول: (فما المسجد بناءً ولا مكانا كغيره من البناء والمكان ؛ بل هو تصحيح للعالم الذي يموج من حوله ويضطرب فان الحياة أسباب الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها ، وهذه كلها يمحوها المسجد ، إذ يجمع الناس مرارا في كل يوم على سلامة الصدر وبراءة القلب وروحانية النفس ولا تدخله إنسانية الإنسان إلا طاهرة منزهة مسبغة على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعار الطهر الذي يسمى الوضوء ؛ فكأنما يغسل الإنسان آثار الدنيا عن أعضائه قبل دخول المسجد)6.
فإن سألت عن أسباب التشرذم بين المسلمين ، قلت لك: ضياع فقههم لدور المسجد ، وإن حيرتك كثرة خلافاتهم لَفَتُّ نظرك إلى تفريطهم بالقيام برسالة المسجد ، وإن أذهلك التباين الشديد في آراء كثيرين منهم وتضارب أفكارهم ، وبحثتَ عن حل فما أنت بواجد خيرا من المسجد ، وإن أردت معالجة العلل وبناء النفوس وتربية الأمة وحمل العقيدة فعليك بالمسجد ، وإن آذتك الأنانية الطاغية في الحياة والانهماك في الشهوات ، والجفاء عن الخلق والأدب والدين ، فاعلم أن بداية الإصلاح من المسجد ؛ لا بالحفاظ على جدرانه ومعانيه مفقودة ، ولا بتزيينه والقلوب خواء ، ولا بملئه بأجسامنا والنفوس معلولة لا تعشق إلا متاع الحياة ، بل بإعطائه حقه فيكون هو الفكر الواحد لكل الرؤوس.