أين ضاعت العقيدة
الحمد لله ثم الحمد لله ؛ الحمد لله الذي يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن الهادي محمدا عبده ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير أما بعد : فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ، وإن من كلام الله تعالى قوله (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون)1 ؛ قال الإمام القاسمي في تفسيره : لو كانوا يعلمون : إيغال في تجهيلهم لأنهم لا يعلمونه مع وضوحه لدى من له أدنى مُسكة (أي حظ ونصيب من الفهم).
إن عيش المسلمين مع عنكبوتيات الأفكار والأعمال ردحا طويلا قد شل فعالياتهم وأودى بهم إلى الحضيض ، والانحراف عن موالاة الله ورسوله مما لا تتجاوزه الأمة حتى تدفع فاتورته الباهظة ، وادعاء الصلاح والتقوى مع الشهوات الباطنة في النفوس يزيد الداء خفاء ، وقد قلنا في الخطبة الماضية أن الطرح المغلوط للأمور مما لنا منه حظ كبير ، ومن آثار ذلك انحسار كثير من مقومات العقيدة الإيمانية من النفوس ، والأخطاء التي نعيشها فكرا أو سلوكا لا يمكن تحليلها إلا بقراءة التاريخ وفهم الحاضر وتبين معالم المستقبل ، وقد فقه من صلحت بهم الأمة ذلك فكان رائدهم الدعاء الوارد في قوله تعالى (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)2. وما بين الدنيا والآخرة منازل يلزم معها التفكر فيما مضى وفيما يمضي وفيما سيأتي ؛ أما نحن فربما أصبحنا سكارى بأهوائنا لا توقظنا مصيبة ولا تحركنا مأساة ولا تزحزحنا عن أغلاطنا الأهوال ، وكل السبب يكمن في الفهم السقيم للأمور. الإمام الغزالي رحمه الله كان فقيها بالنفوس يقول في إحيائه ما مؤداه : (ربما جاهد المريد نفسه حتى ترك الفواحش والمعاصي ثم ظن أنه قد هذب خلقه واستغنى عن المجاهدة وليس كذلك فان حسن الخلق هو مجموع صفات المؤمنين). ما هي صفات المؤمنين؟ منها قوله تعالى في سورة الأنفال (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم)3 ، ومنها قوله تعالى : (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمسكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)4 ويعقب الإمام القاسمي على الآية بقوله : ليس الصلاح والطاعة والفعل المرضي في تزكية النفس الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر (هو أمر القبلة) ، ولكن البر الذي يجب الاهتمام به هو هذه الخصال التي عدها جل شأنه.
والبر هو اسم جامع للطاعات وأعمال الخير المقربة إلى الله ؛ أي باختصار صفات المؤمنين ، ومن صفات المؤمنين أيضا ما ذكرته سورة المؤمنون وسورة الفرقان وغيرها.
ونعود إلى الغزالي الذي يقول : فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق وفَقدُ جميعها علامة سوء الخلق ووجود بعضها دون البعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بحفظ ما وجده وتحصيل ما فقده.
والذي حصل ما يلي: إن الإيمان لا يمكن أن يتحقق إلا بمحاوره الثلاثة : القول والعمل والاعتقاد ، وربما راعت الشريعة بعض الظروف القولية أو ظروف الأعمال الظاهرة ولكنها أبدا لم تتسامح مع الجانب الاعتقادي الذي بضعفه ينهار كل شيء. كلكم تعلمون الحديث الشريف: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده (عمل) فان لم يستطع فبلسانه (قول) فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) .. هل هناك ذرة من الإيمان بعد ذلك؟ لا يوجد أبدا حبة من خردل من إيمان في قلب من مات الجانب الاعتقادي عنده 6 ولسنا نحب صدم الناس ولكننا نحب تفقيههم وتذكيرهم ونصيحتهم ، وإن من النصح لهم أن نذكر لهم بصراحة الضعف الخطير في الجانب الاعتقادي لديهم ، وأن كثيرين منا عليهم العودة ليفهموا الإسلام من ألف بائه الأولى.
إن الأعمال الظاهرة مقاييس للناس ولقد قال الفاروق عمر رضي الله عنه للناس: (إنما نؤاخذ الرجل على ما ظهر لنا من عمله وندع سريرته إلى الله) ولكن سرائر القلوب وحدها هي مناط القبول أو الرد عند الله تعالى ، وصدق الهادي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (إنما الأعمال بالنيات ... )7الرجل الذي تذكره بالله في أمر شرعي واضح بين يتجاوزه ؛ فيجادل طويلا فإن لم تبق له حجة قال لك: أخي أنا هكذا ، والمرأة المصلية التي تذكرها طويلا بعاقبة الغيبة عند الله ونتنها عند الناس فيزداد تغيظها من النصيحة! والإنسان الذي لا يأمن جاره بوائقه أو الذي يبيت شبعان ريان سكران وأهل حيه يكاد بعضهم يموت من الجوع وهو لا يلتفت إليهم .. والذي لا يلذع قلبه كل ما فيه الأمة من الفساد والرذائل المعيبة فإذا التزم ولده بالمسجد أو ابنته بالحجاب ناصبهما العداء بدل النصح والرعاية والذهاب معهما إلى دين الله ، والذي توكل إليه أمانة في منصب من المناصب فيتخذه منبرا للابتزاز وأخذ الرشى وتعطيل مصالح الناس ، والراشي الملعون الذي يدمر الأمة وينخر كما ينخر السوس في جسد المؤسسات والإدارات والمصالح العامة من أجل مصالح وأطماع لا من أجل ضرورة شديدة ألجأته إلى ذلك ثم يأتيك بعد ذلك يصلي في الصف الأول وابتسامته عرضها شبر ؛ فقد ازدادت عصابة المتعاملين معه واحدا ، والذي لديه شقة مفروشة لا يعجبه دخلها الطبيعي من الحلال فيطلب من