يدرسون عادات السكان وعقائدهم فوجدوا أن لديهم اعتقاداً بأن أحد الأرواح المجسدة في خفاش دموي مرعب عندما سيظهر في الليل فسيقتل أي أحد يصادفه ، واختطف الأميركان بعض الأشخاص فقتلوهم بفتح ثقبين في رقابهم ، ورمَوهُم في الغابة وسرى الرعب والخوف في السكان فلم يعد أحد منهم يجرؤ على مغادرة بيته في الليل وتوقفت حرب العصابات الليلية تماماً! استخدام ذكي جداً للمعلومات ، والقبيلة المسكينة كانت تجهل أن ذلك الخفاش الدموي المرعب خرافة فتحكموا فيها من خلال أقل كلفة ممكنة.
وفي تمثيلية حرب الخليج التي كان هدفها احتلال منابع النفط وإذلال العرب وتحطيم معنويات المسلمين وقع العراق في الفخ لنقص معلوماته وغرور حكامه ؛ فمن يملك معلومات أكثر يحكم الآخر ، ولقد ظن ذلك النظام أن له قراراً في الموضوع ، وأوحت إليه الولايات المتحدة أنه لا مانع من حملة صغيرة إلى الكويت (استخدمت كفخ كان من عاقبته تدمير العراق) واستنفار كل الدول الطامعة لغزو بلادنا واحتلال نفطنا وإهانة مقدساتنا وإذلال علمائنا وتشتيت شملنا ، وظن من وقعوا في الفخ أنهم قادرون على المقاومة بأسلحة مستوردة من أعدائهم ؛ فإذا بمن يمتلك المعلومات يتحكم في اللعبة ، وقد نشرت صحيفة ألمانية خبراً مفاده أن المخابرات الأميركية قد سربت إلى منظومة الدفاع الجوي العراقي قبل أيام من الصدام فيروساً أحرق الأخضر واليابس في شبكة اتصالات التحكم الإلكترونية المبرمجة ، ولم يستطع العراق القضاء على الفيروس لنقص كفاءته التقنية فمن يمتلك المعلومات يتحكم.
وسمعت يوماً شاباً يَسُبُّ هذه الأمة وينعتها بأقذع النعوت ويقول أن الإسلام هو السبب! وقلت له: يا هذا إن كثيراً من البلاد الإسلامية حكمت في العصر الحديث بغير الإسلام فماذا أجدى الأمة ذلك ، ويكفيك نموذج تركية ؛ فأيام الخلافة كانت مع كل نقائصها وعيوبها دولة ترهبها دول الأرض فلما أتى الماسوني أتاتورك سار بحملة تغريب فيها ؛ حرمت الدولة فيها الأذان ومنعت اللغة العربية وألبست الناس لباس الإفرنج ومنعت الحجاب و..و.. فهل تقدمت تركية؟ اللهم لا .. بل تحولت من دولة من الدرجة الثالثة أيام الخلافة إلى دولة من الدرجة العاشرة على يد أدعياء التقدم الذين لا يفهمونه إلا من ذنبه كما يقال! ولقد كانت عصورنا الوسطى رغم كل مآسيها أزهى من واقعنا المخجل اليوم ؛ لنا خمسون عاماً نحارب اليهود الكفرة فما خرجنا بطائل .. بل صارت لهم الشرعية أكثر منا.
لقد أصبت يا أخي لنقص علمك باحتقار حضارتك والتنكر لأمتك ودينك ؛ لقد أوهموك أن عقيدتك لا تحمل الحضارة ولا تبني التقدم الحق فهل سمعت في عصورنا الغابرة ؛ بل قل في أوقات ضعفنا بأمثال المستشفى المنصوري الكبير الذي كان كما يصفه الدكتور السباعي رحمه الله في كتابه من روائع حضارتنا بما خلاصته :
(كان آية من آيات الدنيا في التنظيم والترتيب جعل الدخول إليه والانتفاع منه مباحاً لجميع الناس من ذكر وأنثى وحر وعبد ومَلِك ورعية ولا يخرج منه المريض إلا ويعطى كِسوة للباسه ، ودراهم لنفقاته حتى لا يضطر للعمل الشاق فور خروجه ، ومن مات جهز وكفن ودفن ، وكان لكل مريض شخصان يقومان بخدمته ولكل مريض سرير وفراش كامل ، ولكل طائفة من المرضى أماكن تختص بهم ومن طلب العلاج وهو في بيته أرسل إليه ما يحتاج من الأدوية والأغذية وكان يعالج فيه كل يوم من المرضى أربعة آلاف نَفْس ، وقد نُص في نظامه على أن يقدم طعام كل مريض بزبدية خاصة به من غير أن يستعملها مريض آخر وينبغي أن تغطى وتوصل إلى المريض بغطائها ، وأن المؤرقين من المرضى كانوا يوضعون في مكان خاص يستمعون فيه إلى أروع الألحان الموسيقية كعلاج نفسي ، أو تمثل لهم الروايات الظريفة ومشاهد من الرقص البلدي المباح ترويحاً عن أنفسهم وكان المؤذنون أصحاب الأصوات الشجية ينشدون قبل الفجر بساعتين أناشيد تحرك القلب وتجدد الذكرى وتحيي نفوس المرضى (وقد بني هذا المشفى في نهاية القرن السابع الهجري- الثالث عشر ميلادي واستمر حتى دخول الحملة الفرنسية إلى مصر في أواخر القرن الثامن عشر ميلادي) فقل لي أين تضيع الحضارة فينا؟ أغرَّكَ أن يقال إن المسلمين إرهابيون متعصبون أصوليون ليسحبوا ذلك على الإسلام كله ، وما صار بعضهم إلى ذلك إلا لكثرة جراحاتهم ولعنف الحرب ضدهم وإرهابهم واحتقار دينهم وعقيدتهم وقرآنهم. إن خدعت بهذا فاستمع لما يقوله المؤرخون عن تسامحنا وفضلنا وحضارتنا حتى مع من نعتقد كفرهم وانحرافهم قال خلف بن المثنى : لقد شهدنا عَشَرَة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة وهم : الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سني) والحِميَرِي الشاعر (وهو شيعي) وصالح بن عبد القدوس (وهو زنديق ثنوي) وسفيان بن مجاشع وهو (خارجي صفري) , وبشار بن برد (وهو شعوبي خليع ماجن) وحماد عجرد (وهو زنديق شعوب)ي وابن رأس الجالوت الشاعر (وهو يهودي) وابن نظير المتكلم (وهو نصراني) وعمر بن المؤيد (وهو مجوسي) وابن سنان الحراني الشاعر (وهو صابئي) كانوا يجتمعون فيتداولون أخبارهم وعلومهم في أوج قوة الدولة المسلمة (من روائع حضارتنا للسباعي).
فقل لي أشهدت الأرض كلها أمة فسحت صدرها لمخالفيها مثل أمة القرآن ، وقل لي أتتحمل عقيدة على ظهر الأرض مخالفيها مثل عقيدة القرآن ، وقل لي بعدها لماذا تجهل دينكَ وعقيدتكَ وقرآنكَ ..ثم تذهب إلى رأسمالي جشع فتتعلم منه أو تذهب إلى ماركسي منحرف فتقتدي به؟ لقد جهلت فتحكموا فيك ، وضاع عنك العلم الصحيح فملئوك جهلاً وضياعاً وانحرافاً ، وغابت عنك المعلومات الصحيحة فعشت في ركام زائف تجهل آيات القرآن وجلالهَا .. تجهل العقيدة وصفائَها .. تترك مجالس الإيمان وإخائَها .. أنسوك الجنة وضيائَها ، وأنسوك النار ووبالَها!! فالعلم العلم يا فتى الإسلام ، وإن العلم مفتاحك للخيرات ، ومن أضاع العلم أضاع الفلاح والرشد والعقل والدنيا.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ؛ حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهَّالاً فَسُئِلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)12.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون)13.
- ألقيت هذه الخطبة بتاريخ الجمعة 2 ذي الحجة 1414هـ الموافق 13 آيار 1994م.