صلى الله عليه وآله وسلم قال : (إن من أشرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)14 ولا يقتصر الأمر على المنع من الحديث عن الإفضاء والميثاق الغليظ ؛ بل إن أصحاب المروءات ، ما كانوا ليذكروا لغير الحكمين شيئاً من قليل أوكثير ، وقد روي عن أحد السلف أنه حصل نزاع بينه وبين زوجه ؛ فتدخل أحد الفضوليين سائلاً عن المشكلة؟ فقال الرجل : العاقل لايفضح نفسه ، ويبدو أن الدروب كانت مسدودة فانفصل الرجل عن زوجه فعاد الفضولي يسأل : ماذا كان سبب الانفصال؟ فقال الرجل: لاأحل لنفسي الكلام على امرأة ليس لي عليها حق!
إن بعث الحكمين غايته أولاً توضيح بعض الأمور الخافية على أحد الزوجين أوكليهما من ناحية الحقوق والواجبات ؛ فقد يتصور الرجل أن له مثلاً حق ضرب زوجته فيضربها ؛ غافلاً عن السنة الفعلية والفقه النبوي في ذلك ؛ فما ضرب النبي عليه الصلاة امرأة ولا خادماً قط15 ، وينسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نصح صحابية كريمة بألا تتزوج بفلان من الناس لأنه لايضع العصا عن عاتقه 16، وينسى أن بعض الفقهاء قالوا عن الضرب أنه بالمنديل ونحوه مما هو إشعار بغلط وتنبيه نفسي إن لم يفقهه الرجل وتعسف في فهمه نبهه الحكمان إلى حدوده فيه.
وكذلك المرأة : فإن فيهن مسترجلات يعشن ردود أفعال لقصص سمعوها ، فترى الواحدة منهن تتصور الزوج أرضاً يجب احتلالها بالسلاح الأبيض لتطهير قلب الرجل من كل برٍ له بأمه وأبيه واخوته ؛ بدل إعانته على الإحسان لأهله ومن حوله! فيشرح لها الحكمان غلط نظرتها ، والوجوب الشرعي لبر الرجل بأمه وما إلى ذلك ؛ وقد يكون عمل الحكمين : التوعية بتجارب حياتية ما من أسرة إلا وتمر بها في أول إنشائها ، ويلفتان أنظار الزوجين إلى الأسلوب الأمثل في حل المشاكل وتلافي الصعاب.
وق يكون عمل الحكمين إعادة ملئ القلوب بالحكمة والإيمان ، والتذكير بالله ، وإزالة صدأ القلوب ، وتقوية جسور الألفة وإعادة النفس إلى الأدب الإيماني والخلق النبوي الكريم ، وصدق تعالى (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما)17 فيتساندان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرضُ ويتم المراد .. وكم من سوء فهم حصل بين أصحاب قلوب سليمة ؛ إما لجهل أمور شرعية ، أو نقص خبرات حياتية ، أوصدأ قلوبٍ قارَفَهُ ملل وضيق صدر .. وما من نيةٍ لواحدهما في انفصال أو افتراق .. فهؤلاء (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) .
أحد الطروحات العجيبة في فقه الأسرة أسئلة وجدتها في صندوق الرسائل منذ مدة 18 ، ولم أجب عليها إلى أن أتت مناسبتها ، وخلاصتها أن مدرسة فاضلة قالت لتلميذاتها : : إذا قال زوج الواحدة منكن لها لا تذهبي إلى المكان الفلاني فلا تستجيبي لطلبه! وإذا طلب منها أمراً فلتعرض عنه! ودعمت هذه الأستاذة رأيها بأن أول كلمة يتعلمها المسلم هي أن يقول: لا ، وعنت بذلك قوله : لا إله إلا الله ، وذكرت أكثر من رسالة أن خلافات عائلية كادت تحصل بسبب تلك النظريات المحفوفة بغيبوبة هائلة فقهية وتربوية وحياتية!
ابتداءً أقول: أنه ربما كانت هناك إساءة في النقل أو الفهم مما لا تتحمل تلك المُدرسة وزره ، ولكن ما فهمه البعض يحتاج إلى تصحيح أكيد! .. والذي يؤكد عليه القرآن الكريم شيء آخر تماماً إذ يقول تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) 19 ، وكل فكر يحيل البيت إلى حلبة صراعٍ فمرفوض سواء بحق الرجل أو المرأة .. والأمر الثاني أن الإنسان لا يمكن له أن يعيش في أسرة تنتزع فيها الحقوق انتزاعاً .. والأرض تميد بالخلافات ، وفرض الآراء هو الغاية من دون هدى ولا تبصر ، والأمر الثالث : أن التعامل بتلك الطريقة من شأنه تجفيف كل أسباب التراحم والتواد وإحالة الحياة إلى مهام ثقيلة ، ومادية قاتلة تحطم السعادة والاستقرار ، وبالتالي فإن الزواج كله إذا فقد معناه الأساسي وجوَّهُ القائم على المودة والرحمة تحول إلى لقاء بهيمي حسي غليظ ، وهذا من أحد أسباب دمار الأسرة وتلاشيها في مجتمعات عديدة وخصوصاً الغربية منها.
إذا أصبح سبب اللقاء هو المتعة الجنسية فقط [ولو رافقته هالات من الود بعضها حقيقي وأكثرها زائف] فإن الارتواء يؤدي إلى الملل ، ثم تشتاق النفس إلى التغيير [وتبدأ انحرافات عديدة ثم تفتح أبواب الشذوذ] ومن ثم تتحطم الأسرة ، وتفقد كل وشائج المودة ؛ لأنها قامت على جسر شديد الضيق ؛ تهوى هوياً بخرابه وسقوطه!
وما تزايد حالات الطلاق ومهما كان لها من أسباب اقتصادية أو اجتماعية فإن غياب جسور التواد النفسي والتراحم الإنساني في الأسرة هو الذي يصدعها ، وفي العدد الأول من نشرة السكان والتنمية التي أصدرتها وزارة الإعلام بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان ، واليونسكو ، والصادرة في نيسان من هذا العام :
أرقام مقلقة جديرة بالتأمل والتفكير الطويل.
تقول النشرة : في الولايات المتحدة نصف النساء مطلقات ، وربعهن أرامل ، وسبع عشرة بالمائة من النساء هرب أزواجهن منهن بسبب شراستهن! ومالا يقل عن 15% من الفتيات الصغيرات (دون سن الثالثة عشرة) حاملات أو أمهات! يذهبن إلى المدارس الابتدائية ومعهن أطفالهن !!!
مسكين الإسلام ! لأنه نظام عملي واقعي تُشن عليه ألف حرب .. ذنبه أن نظرته للحياة تقوم على أنها مثل مركبة لابد لها من سائق مهما كان نوعها ، وجعل الإسلام الرجل هو السائق ؛ قال تعالى : (الرجال قوامون على النساء) 20 لا لمصادرة حياة النساء بل رحمة بهن ورفقا ، وكم من سائق يتعب وفي مقصورته أمير مرتاح ؛ فإن تعب السائق من القيادة أعانه الأمير ولا ضير ، ويبقى كل منهما في موقعه [أما وجهة السير فلا يحددها الأمير ولا السائق بل تحددها الشريعة ، والتفاصيل الخاصة تتم بالاتفاق] أما إذا تصارعا فحدث عن سقوط للمركبة وشيك .ذنب الإسلام أنه واقعي وله منظومته الخاصة عقيدة وشريعة ونظاما اجتماعياً .. وغيره في منظومته ألف إسفين وثغرة لا يستنفر لها في قليل ولا كثير ... الإنسان الذي لايُبنى على التراحم والود لا خير فيه ، ومامن شيء يقيده ، ومن لم يصدق فليسأل عن الملايين من البنات البريئات يوأدن في الصين كل عام ، وليسأل عن مئات