الرشوة والضرورة
الحمد لله له ما في السماوات والأرض (وله الدين واصبا أفغير الله تتقون)1 ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليكون للعالمين نذيرا.. عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أما بعد :
فان أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلام ربنا عز وجل قولَه (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا)2.
تنتشر بين الناس مقولة غريبة باطلة ، وهي أنهم لم يعودوا يعرفون الحق من الباطل والخير من الشر والحلال من الحرام ، وهذه طامة كبرى تحتاج إلى معالجة جذرية.
إن هذا المنطق مرفوض ابتداء فالله تعالى يقول : (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين)3 أي أن التكذيب للحق والإعراض عن القرآن إنما حصل بسبب جهلهم وفوات الفهم الصحيح ؛ لأنهم لو علموا الحقائق لما وقع التناقض فيهم ، وهذه حال الذين من قبلهم كذبوا بآيات الرسل قبل التدبر في معانيها فكان ذلك سببا لهلاكهم ، وهي عاقبة مستمرة لكل معرض جهول ، والحق أبلج لا يخفى على أحد ، ولكن المشكلة تكمن في نقطتين هامتين : الأولى ضرورة معرفة الفكرة الصحيحة ولو لم يقدر الإنسان على فعلها ، والأصل أن لا يفترق الفكر عن العمل ولا العقيدة عن السلوك ولكن الجاهلية المنحرفة توقع الناس في خبلها وتعمِّي الأمور ؛ حتى يضيع الحق كله ويصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا. لنأخذ مثلا موضوع الرشوة ؛ هل الرشوة حلال أم حرام؟ لا يختلف اثنان من أمة لا إله إلا الله على حرمتها وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : (لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم)4 ؛ فإذا فسد مجتمع من المجتمعات فأصبحت الأمور لا تقضى إلا بالرشاوى فهل تصبح الرشوة حلالا؟ اللهم لا ؛ فالرشوة كما قال الإمام الذهبي :كبيرة ، والعلامة المناوي في فيض القدير يقول عن الرشوة ما مؤداه : إنما هي خصلة نشأت من اليهود المستحقين للعنة ؛ فإذا سرت إلى أهل الإسلام استحقوا من اللعن ما استحقه اليهود.
فالرشوة في ضمير المسلم حرام حرام دائما أبدا ؛ لا تختلط عليه الأمور ولا يلتبس معه الحق بالباطل ولا يستسهلها ولا يبررها ولا يقبلها ؛ فتبقى لها في قلبه رهبة وفي نفسه نفور ، ولكن ما الحال إن وجد في ظرف اضطر فيه إليها اضطرارا كأن وقع بين يدي ظالم لا يعطيه حقه إلا بالرشوة مثلا؟ هل يفقد إحساسه بلعنتها و يفقد حساسيته الإيمانية بخطرها على المجتمع كله؟ اللهم لا.
إن الضابط الشرعي يقوده فيعلم أولا : أنه لا يجوز له أن يبادر إلى فتح باب الرشوة في أي ميدان كيلا يسن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ثانيا: أن يفعلها اضطرارا لا اختيارا ؛ فتبقى في حسه إثما وحراما يقارفه مضطرا ولا يكون لها تخريب في نفسه كمن فعلها استباحة ورضا مع تنبهه إلى أن الضرورة تقدر بقدرها.
ثالثا: أن يحاول ما استطاع الخروج من شبهة الرشوة ؛ كمثل من علقت له قضية في مكان وطال العهد بها فسأل وفتش فقيل له هناك معلوم يجب أن تدفعه فذهب إلى الذي يأخذ المعلوم فقال له : ما الذي يحملك على أخذ المال من دون حقه ومن دون رضا أصحابه ؛ فشكا الرجل وبكى وتعلل بأولاد سبعة يعولهم والمرتب لا يكفي والغلاء شديد ؛ فقال صاحب القضية : اسمع يا أخي الرشوة حرام ، والمال الحرام لا بركة فيه وكم رأينا من جمع الملايين من دون حق فرأينا عقوبته في الدنيا قبل الآخرة : من ولد يصيبه السرطان أو زوجة تشل أو حياة كلها نكد وشقاء ؛ فضلا عن احتقار الناس له ولعنهم له سرا وعلنا ؛ فطأطأ الرجل رأسه وتذكر قروشا حلالا قليلة كان يدسها في جيبه يوما تغنيه عن الآلاف من الحرام ، ثم قال : ولكن ما الحل؟ ووضعي كذا وكذا؟ فقال صاحب القضية : إن كنت مضطرا فاسأل الناس العون من دون إكراه ، والمساعدة من دون تحكم في أمورهم ، وبقدر حاجتك الفعلية فإن ابن آدم لا يملأ عينه إلا التراب ، ومد يده فواساه ببعض المال قائلا : هذا المبلغ أدفعه إليك مساعدة أخ لأخيه لا رشوة حراما لا أرضاها لك أهوي بها في النار معك ؛ فكادت الدمعة تخرج من عين الرجل. إن هذا الأمر أقل ما يجب في حال الاضطرار ، وهو ينفع مع المستويات الدنيا ممن تنخر في صفوفهم الرشى وفيهم بقايا فطرة ؛ أما المستويات الأعلى فننتقل معها إلى :
رابعا: وهو أنه لا يجوز بحال من الأحوال دفع رشوة لأخذ حق الآخرين ، فما توصل به إلى إذهاب حق أو تمشية باطل فحرمته شديدة ، كمن يأتي على سبيل المثال إلى جمعية سكنية يريد التسجيل فيها فلا يجد شاغرا ؛ فيستغل سفر عضو مكتتب منها استحق دفع قسط له ، فيرشي أحدهم كي لا يرسل له إعلاما إلا بوقت متأخر لا يلحق معه التسديد فيذهب حقه في الاكتتاب فيأتي الراشي الملعون فيأخذ بيته وهذا من الحرام المخيف ؛ أما من اضطر إلى دفع الرشوة لأخذ حقه ، وهو لا يُعطاه إلا بالدفع ؛ فهنا يقع الإثم على الآخذ لا على الدافع لأنه لا يستطيع أخذ حقه أو دفع الظلم عنه إلا بما فرضه الظلمة المرتشون الملعونون ؛ فهو عند الله مضطر لم يقصد الحرام ولا له إليه رغبة وهم آثمون ملعونون (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)5 خامسا: لقد جاءت السنة بلعن الراشي والمرتشي فلم لا تطبق هذه السنة كلما اضطرك أحد إلى رشوته ليبقى قلبك على تمييز ووضوح فإن فعلت كل هذا أتقول لي : إن الحق لم يعد يعرف من الباطل والتبست الأمور والحلال لا يعرف من الحرام. إن وضع الإنسان المسلم في أي وسط فيه انحرافات وضع حرج فعلا ولكنه لا ينسيه الحرام ولا يرديه في المعصية ولا يزجه في الكبائر ، وهذا الأمر في غاية الأهمية فان من يضطر إلى أمر