الصدق أساس الاستقامة
إنَّ الحمد لله أحمده و أستعينه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مضل له و من يضلُل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبد الله و رسوله جاء للعالمين بشيراً و نذيراً ..
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون)1.
أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه و آله و سلم ، و شرَّ الأمور محدثاتها و كلَّ محدثةٍ بدعة و كلَّ بدعةٍ ضلالة و كلَّ ضلالة في النار.
و إن من كلام ربنا عز و جل قوله : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين)2. قال الإمام ابن القيم في مدارجه : الصدق هو منزل القوم الأعظم الذي فيه تنشأ جميع منازل السالكين و الطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان ، و سكان الجنان من أهل النيران و هو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شئ إلا قطعه و لا واجه باطلاً إلا أرداه و صرعه ، من صال به لم تُرَد صولته و من نطق به علت على الخصوم كلمته ، فهو روح الأعمال و محك الأحوال و الحامل على اقتحام الأهوال و الباب الذي دخل منه الواصلون على ذي الجلال و هو أساس بناء الدين و عمود فسطاط اليقين و درجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين و من مساكنهم في الجنات تجري العيون و الأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار متصل و معين.
قال تعالى : (ومن يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حَسُنَ أولئك رفيقا)3. الإيمان أساسه الصدق و النفاق أساسه الكذب فلا يجتمعان. الغافل يتخيل الصدق كما يهوى و إنما الصدق استقامة في الأقوال و الأفعال و الأحوال فلا ينال درجة الصديقية كاذبٌ أبداً لا في قوله و لا في عمله و لا في حاله ، و في الصحيحين من حديث بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (إنَّ الصدق يهدي إلى البر و إن البرَّ يهدي إلى الجنة و إن الرجل ليصدُقَ حتى يكون صدِّيقاً ، و إن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و إن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)4 ، و في حياتنا أيها الناس آفة تحتاج إلى علاج انتبه لها الإمام الغزالي قديماً فقال ما نسوقه بتصرف : ربما جاهد المريد نفسه حتى ترك الفواحش و المعاصي ثم ظن أنه قد هذب خلقه و استغنى عن المجاهدة و ليس كذلك ، فإنَّ حسن الخلق هو مجموع صفات المؤمنين التي ذكرها الله في كتابه فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على الآيات فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق و فقد جميعها علامة سوء الخلق و وجود بعضها دون البعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بحفظ ما وجده و تحصيل ما فقده. هذا عن الخلق الحسن عموماً ؛ فإذا انتقلنا إلى موضوع الصدق وجدنا أن الله تعالى بَيَنَ مراده لما قال : (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون)5 ؛ فليس الصدق شيئاً يفهمه الواحد منا كما يهوى ، وإن العلة التي فينا هي فوات فقه شروط الصدق و أنها تلزم مجتمعة و أن الخلل في واحد منها ينسف الصدق كله فلا يكون عند المؤمن كذب أبداً ؛ فإن رأيت صائماً مصلياً ثم بعد ذلك يغش ، أو رأيت مبسملاً محوقلاً ثم بعد ذلك يسرق أو رأيت خافضَ رأسه و رافعه في المسجد ثم هو عن التحاكم إلى شرع الله معرض أو وجدت حاشر نفسه مع أهل التقوى فإذا خطبت ابنته إلى صاحب دين و خلق أبى ليزوجها نخاسة إلى صاحب مال ، و إن وجدت موسوساً في الوضوء أو الصلاة ثم يرمي الأوساخ من سيارته في الطريق أو من نافذة بيته إلى الشارع ، أو إن رأيت من يكلمك عن الدولة الإسلامية باجتهاد محدود ضيق و كل صدره غيظ لمن لا يشاركه رأيه ، وإن رأيت متخمرة بحجاب يغطي جسمها و نَتْن الغيبة يفوح منها ، أو رأيت مُحبة لله و لرسوله ثم بعد ذلك لا تكون إلا أداة شيطان تبرجاً و عُرياً ، وإن رأيت من يحب الإسلام سيرة و تاريخاً و كتباً و سطوراً ثم لا يفهمه نظاماً و شريعة و عقيدة و دستوراً ، وإن رأيت غارقاً في عالم الشهادة مبتوت الصلة مع عالم الغيب عقيدة و فكراً و شهوداً ، و إن رأيت من يفيض المال من بين يديه لأثاث و طعام و كساء و حذاء و في أهله أو جيرانه أو إخوانه من لا يملك نقيراً أو قطميراً ، و إذا رأيت من يزعم أنه أخوك و ثمن مسبحة يطقطق بها تساوي أكثر من كل ثيابك ، أو من لا يذكر أنه أخوك إلا إذا احتاجك فإن لم يحصل نسيك ولم يتفقدك أبداً ، و إن وجدت من يقول و لا يفعل و يعد و لا يفي و إن ابتليت بمن يفتح عليك لساناً مثل الرشاش عن ضرورة التكلم بالحق فإن تكلمت به انصرف عنك مثل قط الحارة الجبان ، و إن وجدت طالباً للجنة من دون عمل و طالباً لثبات الحق من دون بذل و مجاهداً من دون صبر ، و إن وجدت كثير نقد و كثير غمز لأهل العلم و الفضل فإن طلبت منه يد عون حملق فيك كأنما غشيه الموت ثم أرسل من يُسمعك قوله : ما دَخَلنا !!! و إذا سمعت بداعية إلى الله رصيده من حب تكفير الناس أعظم من رصيده في الشفقة عليهم وحب هدايتهم ، و إن وجدت داعية إلى الله لا يلبس إلا حذاءً ثمنه يساوي مرتب ثلاثة موظفين ، و أخرى تدرس تلميذاتها أن الموسيقا حرام و في بيتها تمرح بناتها بين ألف إيقاع و لحن فإن سألوها عن الحكم قالت: حتى لا تتعقد البنات المسكينات ، و كأن تعقيد بنات الناس حلال و تعقيد بناتها حرام ، و إذا وجدت مَن مفاخر عائلته أعظم عنده من الدين و شعائر آبائه أهم من كل ما قال السلف والخلف ، و إن رأيت من لا يفهم الدين إلا محاريباً و أذكاراً و أوراداً و آخر لا يفهمه إلا قتالاً و طعاناً و إذا رأيت في المدينة ألف مسجد فاخر و في ألف قرية لا يوجد مسجد متواضع ؛ إذا رأيت كل ذلك فاعلم أنه من مظاهر الخلل الشديد و الصدق بعيد عن أصحابها و ليس أمراً أدعيه بل هو قول الله تعالى : (ليس البرَّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البرَّ من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه