الظلم في العالم الإسلامي
الحمد لله ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون )1 ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعبده مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
( فذلكم الله ربكم الحقُّ فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون )2 .
ونشهد أن الهادي سيدنا محمداً عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق للعالمين بشيراً ونذيرا.
(فلا تحسبن الله مخلفَ وعدِهِ رسله إن الله عزيز ذو انتقام )3 ، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )4 ؛ أما بعد :
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن من كلامه تعالى قوله ( فماكان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )5 ، وقد ورد هذا البيان في آيات كثيرة أوضحت وبينت وحذرت من الظلم الذي يلابس الأفراد أو ترتضيه المجتمعات كيلا تحيق العاقبة المحتومة: ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلِكِهِم موعدا )6
( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا )7
( هل يهلك إلا القوم الظالمون )8
وقال تعالى : ( وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون )9.
وقال تعالى : ( ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيراً )10.
فالارتباط واضح بين الظلم الذي يرتكبه الإنسان أو يسمح بوجوده وبين العاقبة المهلكة.
ونحن نبحث عن الأسباب البعيدة والتحليلات الغامضة ، وننسى ما نبنيه بأيدينا للظلم من جسور وإن الفساد لم ينتشر في العالم الإسلامي إلا لما صرنا نتظالم فيما بيننا فلا يرجع واحدنا إلى الحق وبالتالي فتحنا لكل عدو حاقد وخبيث مخرب ألف باب وباب ؛ حتى عشعش الظلم فينا وفشا ونحن الذي ثبتناه وأعناه.
انظروا إلى قضية بسيطة هي قضية الصلاة ؛كثيرون ظلموا أنفسهم بخوفهم من الصلاة ؛ فصاروا يخشون منها وهي باب الأمان. كيف يدخل قلبك يا مسلم خوف وأنت تقف بين يدي الله لتقول : (إياك نعبد وإياك نستعين)11؛ لو كانت مخاوف الدنيا كلها أمامك ثم فزعت إلى الله لأصبحت في نجاة وأمان ، ولكن لما فزع البعض من الصلاة ثم أرجفوا بذلك حولوا الصلاة إلى جريمة في نفوسهم ، ثم بثوا الباطل بين الناس فأتى كل صاحب غرض وكل حاقد على الصلاة وكل من يريد أن يتسلى فوجد مجالاً ليُرعب الناس من الصلاة ؛ لما أرعبوا أنفسهم منها ؛ لما ظلموا أنفسهم ( فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )12 ، وأذكر قصة طريفة لطالب جامعي دخل المحاضرة عجلاً بعد الطلاب ، وأراد المدرس أن يمازحه بطريقة غير لائقة فصرخ فيه : لماذا تأخرت؟ لعلك كنت تصلي! يريد تحويلها في صدره إلى جريمة فقال سالكُ إياك نعبد وإياك نستعين بكل هدوء وسكينة : نعم كنت أصلي ولله الحمد ، وأنت يا دكتور ألا تصلي ؛ فبهت الذي سخر وبطل ما كان أمثاله يعملون.
وكما يستقر الظلم من خلال سياق فردي فإنه يستقر من خلال سياق جماعي. بعض الأخوة ظنوا لما تحدثنا في الجمعة السابقة عن الاستفادة من كل العلماء ؛ عن ضرورة الحرص على كل الاتجاهات الإسلامية ؛ عن ضرورة أن تكون نفسيتنا عندما نتحدث عن خطأ لأحد العلماء مثل نفسية المحدث الذي كان يمضي في الجَرح والتعديل وهو يبكي ويقول : لعلنا نتحدث عن أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة منذ مائة عام13 ، و عن فهمنا لقول الإمام بديع الزمان النُورسي لما حاكموه وسألوه :من أي حزب أنت؟ من أي جماعة؟ من أي طريقة؟ فقال: (ليس الزمان زمان حفظ الطريقة ؛ الزمان زمان حفظ الإيمان. كثيرون هم الذين يدخلون الجنة من دون طريقة ، ولكن لا أحد يدخل الجنة من دون إيمان). لما تحدثنا عن كل ذلك ظن بعض الأخوة أننا نغمز من بعض الجماعات الإسلامية وما كنا نريد إلا أن نخرج من جهلنا ؛ من محدودية تفكيرنا ومن انغلاقنا و ظلمنا لأنفسنا . إن القيادة المحنكة إذا كانت تقاتل على عشرات الجبهات فإنها تحرص على تقليلها ما أمكن ووحدهم الحمقى و الجهال في لحظات الطيش يفاخرون بأنهم يفتحون في كل يوم جبهة جديدة والمسلمون بينهم جبهات ملتهبة تنزف فيها الدماء14، ويسفه العلماء15 ، ويضيع الناس وتتحطم الآمال وتنتشر الأراجيف ويسود القنوط والنتيجة في النهاية تمكن الظلم واستبداده لأنهم فتحوا له الحصون ؛ فدخل فتمكن فسيطر فحل الهلاك وصدق تعالى : ( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد )16، وبدل أن تتجه جهود المسلمين من خلال جبهة واحدة لصد الانحرافات والمظالم التي تحيط بهم انطلقوا إلى الاقتتال الداخلي سيفاً و فكراً و ثقافة و فقها ؛ حتى انفرطت هيبتهم في قلوب المتربصين بهم فاستخفوا بهم حتى اجترأ صبيان الماركسية فألقوا إليهم طرحاً ماركسياً للقرآن ، وهذا الطرح أسخف من أن يشار إليه وما أتلف أوقات كثرة من الناس به إلا انصراف الدعاة عن الجبهات الخطيرة العظيمة إلى معارك هزيلة تملاً النفوس بنشوة نصر كاذب وأوهام حق متخيل وما ثمة نصر ولا حق وإنما خيالات و توهمات و جهالات و تخبيطات ، وصدق تعالى إذ يقول: ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجآءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون )17. والخطاب لأمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكر غير واحد من المفسرين فهل بعد ذلك تعود إلى التظالم. حدثني أخ من البوسنة أن الدعاة يأتون إليهم وفي أذهان الكثيرين منهم نظريات ضيقة فصلت تحت هيمنة سياسية لبعض الدول التي لا يهمها الإسلام في قليل ولا كثير ما دام حكامها على العروش ؛ أو يحمل أولئك الدعاة جموداً هائلاً في فهم الفقه أو العقيدة ؛ في إدراك الحياة وطبائع المجتمعات ، ثم قال: وكثيرون من المسلمين لم يسمعوا عن الإسلام شيئاً بسبب حكم شيوعي دموي ملحد ارتكب المجازر البشعة وشنق العلماء وأعدم الدعاة ونكّل بكل متمسك بدينه وما بقي في قلوب الكثيرين إلا عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله تعانق قلوبهم ويسري حبها في دمائهم وتدفعهم إلى الموت إن رفرف لوائها وتفيض عيونهم دمعاً غزيراً في