يقول ابن تيمية رحمه الله: (العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى وغاية المحبة له) ويقول في موضع آخر: (إنما الدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده ، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا ، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك ، وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك ، وكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله بل لا يكون لله إلا ما جمعَ وصفين: أن يكون لله وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله) ؛ أما صاحب المدارج الإمام ابن القيم فيقول: (أصل العبادة محبة الله ؛ بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله فلا يحب معه سواه وإنما يحب لأجله وفيه). إذا فالحب لله من لوازم العبودية وبدون الحب تصبح الأعمال جافة لا روح فيها ، وأصل الحب لغة من الصفاء أو من الحب الذي هو إناء واسع يوضع فيه الشيء فيمتلئ به بحيث لا يسع غيره ، ومثلُ غير ذلك. والناس يتكلمون عن حب الله وربما لم يعرفوه ؛ حتى أن ثوبان ابن إبراهيم أحد مشاهير الزهاد تكلموا عنده في مسألة المحبة فقال: أمسكوا عن هذه المسألة! لا تسمعها النفوس فتدعيها ، وقد ذكر ابن القيم أن المحبة هي ميلك إلى المحبوب بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك في حبه ، وباختصار هي مصاحبة المحبوب على الدوام. ألا ترى إلى من صاحب الصالحين فما أطاق بعدها أن يفارقهم وهامت روحه معهم فقال:
ومن عجب أني أحن إليهـــم وأسأل عنهم من لقيتُ وهم معـي
وتطلبهم عيني وهم في سـوادها ويشتاقهم قلـبي وهم بين أضـلعي
هذا ثوبان رضي الله عنه كان شديد الحب لله ورسوله أتى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن ؛ فقال له المعلم الهادي صلى الله عليه وسلم 9: (يا ثوبان ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي وجع ولا ضر غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ولولا أني أجيء فأنظر إليك لظننت أن نفسي تخرج ؛ ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك لأني عرفت أنك مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا فيشق ذلك علي وأحب أن أكون معك) ؛ فأنزل تعالى قوله: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا * ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما)10.
وهذا الحب يدفع بصاحب رسول الله عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه فيشمخ في وجه إغراءات المال والنساء واللآلئ ولا يرهبه التهديد بصلبه ؛ فيؤتى بالقدر العظيمة التي يغلي فيها الزيت ويلقى فيها الأسير فتتفتت عظامه فيبكي ابن حذافة ؛ فيظن هرقل أنه قد جزع من الموت ويسأله: مالك بكيت؟ فيقول: وددت لو أن لي مائة نفس فتموت في سبيل الله مثل تلك الميتة! إن الموقف ليس موقف شجاعة بشرية ولا حماسة دافقة ؛ الموقف موقف إيمان مازج الروح وخالط الدم ، وحب شديد لله تعالى.
وذلك الأعرابي الذي سألَ إن كان الله تعالى يقبل التوبة ويغفر الذنب فبُشر بذلك ؛ فانصرف ملتاعا واضعا يديه على رأسه يقول: يا رب ... واخجلتاه منك وإن غفرت!! وهل يبعث على ذلك إلا الحياء الشديد مع الحب الدافق الحي.
إن كثيرا من آفات قلوبنا وأمراضنا ترجع إلى خفوت حب الله ورسوله في قلوبنا ، وهو من أوثق عرى الأيمان. وما بين شعب الأيمان التي تبدأ بلا إله إلا الله وتنتهي بإماطة الأذى عن الطريق ؛ بضع وسبعون شعبة لا بد لها من خوف الله والطمع برحمته ، ولا بد لها من محبة سائقة تعين على مشقة الطريق ومجاهدة النفس ، والبعد عن أهل الغفلة ، والتشمير مع المجدين. إن الحب أمر قلبي ولكن الجوارح كلُّها أسيرة للقلب تسير بسيره وتقف لوقوفه. والقلب يحتاج إلى الحب الذي يملؤه فتشرق منه الأعمال الصالحة والأخلاق الزكية والنفوس الرضية.
إني رأيت الدهر ليلا حالكا فجعلت حب الله فيه ضيائي
فأين ضياؤكم يا أبناء وبنات الإسلام؟
إن الحب يحتاج إلى المعرفة وكيف تحب شيئا لا تعرفه ؛ أما سمعتم الحسن البصري يقول: من عرف ربه أحبه.
والمعرفة تحتاج إلى علم ؛ أما سمعتم قول الله عز وجل: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)11.
والعلم يحتاج إلى إخلاص ؛ أما سمعتم نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه)12.
والإخلاص يحتاج إلى تجرد ؛ أما رأيتم أبا بكر رضي الله عنه لما طُلِبَ المال للجهاد خرج من كل ماله فسألوه عما أبقى لعياله؟ فقال لهم : أبقيت لهم الله ورسوله!13
والتجرد يحتاج إلى عزيمة ؛ أما تذكرون نبيكم صاحب العزم صلى الله عليه وسلم يدعو: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل ومن الجبن والبخل ومن غلبة الدين وقهر الرجال)14.
والعزيمة تحتاج إلى صدق ومجاهدة وقيام ليل واستغفار وحضور مجالس العلم وترويض النفس على مخالفة الهوى وترك أهل الغفلة وصحبة الصالحين ، والتفكر بالموت والبذل لله وعدم الخشية ممن لا يخشاه ، وكلها أعمال إن حرصتم عليها وعودتم عليها جوارحكم انبعث منها إلى قلوبكم أثر ولا بد فتبقون في خير أبدا. إن محبة الله