الثرثرة و أمن المعلومات
الحمد لله (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون)1 ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله رحمة للعالمين أرسله.
إخوة الإيمان أخوات الإيمان : اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ؛ أما بعد :
فإن اصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وأن من هديه قوله في الحديث الصحيح : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو لِيَصْمُت)2.
اللسان مفتاح المعلومات وأمن المعلومات في غاية الخطورة والتفريط به يؤدي إلى عواقب وخيمة في كل صعيد وابتداءً من الأسرةِ الصغيرة نجد أن حفظ أمنها يقوم على صيانة أسرارها وهذا يحفظها ويصون المجتمع من الشقاق والفواحش واللغو والغيبة والوقوع في الأعراض ، وقد كان بين رجل وزوجه خلاف فجعل الفضوليون يحاولون معرفة سر بيته فكان يَصدهم بقوله : العاقل لا يفضح نفسه ثم وصلت الأمور بينه وزوجه إلى أن وقع الطلاق , فأتاه قليلو الخلق والدين ؛ يستطلعون سره فقال لهم : لا أتكلم عن امرأة لا تخصني.
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه)3. وكم من مشاكل كان يمكن تلافيها أو بحثها مع أهل علم أو فتوى وفي أسوأ الظروف الوصول إلى حل فيه أقل ما يمكن من الأضرار ، ولكن تفريط الناس بأمن أسرهم وثرثرتهم بمعلومات ما ينبغي ذكرها قاد الموضوع كله إلى شبكة معقدة من محاور الشد والجذب والتحريض والتأجيج المدمر، وتفريط الناس وقلة عقلهم ورميهم بأسرار بيوتهم إلى كل من هب ودب كفيل بجلب كل أنواع المصائب ، وفي حديث معاذ رضي الله عنه يسأل رسول الله e : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)4 وعلى المؤمن والمؤمنة أن لا يكونا ثرثارَين ولا نقالين للأخبار ولا مستطلعين لأسرار بيوت إخوانهم وليحفظوا ألسنتهم من كل كلمة يلقونها في أسرة قد تتصدع أركانها نتيجة جهل أو لغو يرتكبانه وفي حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات ، و إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)5 ؛ كثيرون لا ينتبهون لأنفسهم فيثرثرون ويفرطون بأمن المعلومات حول أسرهم وهذه الأمور لا يستشار بها إلا عاقل تقي فقيه وإلا انعكست في نفوسهم أصداء كلمات تخرج من جند الشيطان وحزبه ؛ تهدم البيت وتدمر الأسرة وتوسع الثغرات وتفرق بين المرء وزوجه ، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئاً ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ويقول نِعمَ أنت فيلتزمه)6 وفي الحديث الصحيح: (من خبب على امرئ زوجته فليس منا)7 وخبب معناه خدع وأفسد , قال تعالى( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً )8 , أما ناقلي الأحاديث الفارغة والموغرة للصدر بين الناس فلهم عاقبة أليمة قال عليه الصلاة والسلام : (لا يدخل الجنة نمام)9.
لايكفي من الأخ المسلم والأخت المسلمة أن يحفظا ألسنتهما عن الكلام ؛ بل عليهما الامتناع عن الإصغاء إلى المفسدين وعدم إتاحة الفرصة لهم ؛ بل صدهم عن بهتانهم .
قال تعالى: (والذين هم عن اللغو معرضون)10 وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)11.
والقاعدة أيها الأخوة أن درهم وقاية خير من قنطار علاج , وعدم الانتباه إلى ما يخرج من اللسان قد تكون عواقبه العاجلة والآجلة أخطر مما نتصور بكثير وهناك علامات مترابطة متبادلة بين وعي الأسرة الصغيرة وحفاظها على أمنها وأسرارها المنزلية ، ووعي الأمة بالأخطار المحيطة بها وعدم التفريط بأمنها القومي وأسرارها المنزلية ؛ الذي يتعلم في بيته أن من صفات المؤمن الإعراض عن اللغو وأنه مؤاخذ بما يتكلم به ويتعلم أن يقول خيراً أو يصمت : يحفظ هذا له بيته ويبني فيه مقدمات تربوية لأمن حضاري ممتد ، وهناك أشياء يصعب الحديث عنها لشموليتها الهائلة أولاً ، ولكون الوعي بها ضامراً إلى حد بعيد ولحاجة المتفقه بها إلى صبر شديد حتى يدرك خطورتها الفعلية ، وأسأل الله العون على شرح الفكرة.
هل تعلمون أن بالثرثرة وحدها يمكن أن يقوض أمن أمة بكاملها.
عندما ألف أحد الباحثين كتاباً سماه (صدمة المستقبل)12 أشار إلى أن من سيحكم العالم في المستقبل هو من سيمتلك معلومات أكثر! وحرب المعلومات أشد خطراً وشراسة من الحرب النووية ؛ الذي يمتلك معلومات أقل يكون قابلاً للبرمجة من صاحب المعلومات الأكثر ؛ يصبح تابعاً له ... مجرد حد من حدود المعادلة يمكن تحييده واختصاره أو حذفه عند اللزوم , والشعوب المسلمة مازالت حتى اليوم لطيبة قلبها وغفلتها لا تتنبه إلى أمن المعلومات فيها ولا تدرك خطره ؛ في إحدى الدول الإسلامية شيد مطار حربي في مكانٍ ناءٍ وراء جبالٍ وهضابٍ وكان على الأفراد العاملين النزول من الباصات العامة عند منعطف طريق طويل لتأتي ناقلات خاصة لآخذهم , المخجل والمزعج أن سائقي الباصات كانوا يقولون بأعلى أصواتهم عند الوصول إلى المنعطف: موقف المطار السري ... موقف المطار السري ؛ بحيث أن كل ركاب الباص ومنهم أعداد كبيرة من السياح والغرباء يسمعون هذا ويقطفون معلومة ثمينة من دون أي جهد. لقد أصبح التجسس على الأهداف الاقتصادية والعسكرية لأية دولة في غاية السهولة ، وما هو أخطر من معرفة الأسرار العسكرية هو معرفة الأسرار النفسية : معرفة تركيب الأسرة ، وكيف يفكر المجتمع ، وما هي القوى الاجتماعية الموجودة وما علاقة الشعب بالدولة ، وما الثغرات الموجودة وما الذي يوتر الناس وما الذي يزعج الدولة والمفاصل الحساسة في العلاقات بين الأديان والطوائف والقوميات.