آداب الخطبة ، الكفاءة في الزواج ، الاستخارة الشرعية
الحمد لله لا نحمد غيره و لا نعبد سواه ، و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا محمداً عبد الله و رسوله (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالاً كثيراً و نساء و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)1 . أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن من هديه عليه الصلاة والسلام قوله في حديث الترمذي : ( إذا خطب إليكم من ترضون دينه و خلقه فزوجوه ؛ إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض و فساد عريض)2.
من سنن الحياة : أن من صحت بدايته صحت نهايته ومن فسدت بدايته فالشقاء مآله ، وبداياتُ الخطبة ثم الزواج قد تكون على هدى من الله فيُستبشر منها بمآل خير ، و قد تكون على انحرافٍ فعاقبتها مخوفة ؛ وكثير من عوامل الضعف والتضعضع في الأسرة المسلمة بداياته سير خاطئ ؛ لذا فإن فقه الطريق لازم ، والأدب الشرعي وقاية وحفظ دائم ، وله وجب التذكير.
إن أول ما يُطلب هو الدين والخلق الحسن ، و إذا كان المرغوب فيه هو المال و الحسب والجمال والدين فإن الدين هو أولها وأفضلها كما ورد في حديث البخاري (فاظفر بذات الدين تربت يداك)3 و هي كلمة تحريض وحث ، ولا يُفهم من ذلك الإعراض عن باقي الصفات ، ولكن القصد أن الصفات إذا انفردت ووجب اختيارُ واحدة منهن فالدين أفضلهن ،و إذا اجتمعت الصفات كن نوراً على نور .
ورضى الدين و الخلق معاً يشير إلى أمرٍ مهم و هو ضرورة البحث عن الإنسان الملتزم ؛ ديناً [ أي عبادةً ] و خلقاً ، وهناك أمرٌ لا أرى بداً من الإشارة إليه وهو أن قيام الإنسان بالعباداتِ كصلاة وصيام من دون خُلق حسن لا يكفي لاستقرار الحياة و توازنها .. فكم من مصلٍّ في طبعه شراسة وكم من صائم في تصرفاته غلظة و قسوة .. فما لم تكن الزوجة مقاربة له في طباعه معتادة على ما هو فيه كان ذلك سبب فراق وشقاق.
و الأصل في الزواج الديمومة ، وكل أمر يصدعه فيجب البعد عنه ابتداءً ، و يدل على هذا حديث فاطمة بنت قيس من أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن رجلين خطباها هما معاوية و أبا جهم فقال عليه الصلاة و السلام ناصحاً : (أما أبو جهمٍ فلا يضع عصاه عن عاتقه و أما معاوية فصعلوك لا مال له)4 .. فما كانت المشكلة مشكلة عبادة و لا صلاة و لا صيام ، و لكن مشكلة تعاملٍ اجتماعي و انسجام أسري ما كان ليحصل بين فاطمة بنت قيس و خطابها فنصحها عليه الصلاة و السلام و بيّن لها أن الأمر فيه بذور اختلاف من البداية و الإقدام عليه مع التباين مما يستدعي الاختلاف اللاحق ، وهذا الموضوع يجرنا إلى موضوع الكفاءة في الزواج ؛ فما هي الكفاءة و ماهو الاعتبار الشرعي لها؟ أما لغةً : فهي المساواة و المماثلة و المناظرة .. و في الزواج هي مقاربة في الأحوال تستدعي دوام الزواج و نجاحه .
أما حكمها الشرعي فيرى الإمام ابن حزم أن أي مسلم كُفء لأية مسلمة ما لم يكن أحدهما زانياً ، واستدل بآيات منها قوله تعالى : (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)5 ، ويرى السادة المالكية أن الكفاءة معتبرة بالاستقامة والخلق فلا اعتبار لنسب ولا لصناعة و لا غنى و لا حرفة و لا أي شيء أخر و حالة واحدة تمنع الكفاءة وهي عدم الاستقامة . فلا يكون الفاسق كفئاً لصالحة ولا مَن مالُه حرام و لا من هو كثير الحلف بالطلاق لأنه لا يتقي الله ، واستدلوا بقوله تعالى : (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)6 . و بحديث : إذا جاءكم من ترضون دينه و خلقه .. فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى ، والكفاءة متعلقة به ، وقد تزوج بلال الحبشي رضي الله عنه أختَ عبد الرحمن بن عوف ، فمن كان دينه و خلقه سليماً لم ينظر فيما عدا ذلك ، وممن ذهب إلى هذا الرأي: عمر بن الخطاب وابن مسعود ومن التابعين ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ، ونقل الشوكاني عن الخطابي أن الكفاءة معتبرة في قول أكثر العلماء بأربعة أشياء الدين و الحرية والنسب والصناعة ( أي الحرفة ) و منهم من اعتبر السلامة من العيوب و اعتبر بعضهم اليسار ، وكل رأي استدل له أصحابه ؛ فقد خيَّر عليه الصلاة و السلام بَريرةَ لما لم يكن زوجها كُفئاً لها من حيث الحرية7 .. و استدل من اعتبر الحرفة بقوله تعالى : (قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون)8 فلا تزوج ابنة عالم من صاحب حرفة دنيئة ويقاس عليها مثقفة من جاهل و أستاذة جامعة من أمّي وما شاكل هذا. والخلاصة أن الاعتبار الأول في الكفاءة يأتي للدين و الخلق و كل الأمور بعدها إنما تعتبر إن كانت مَظنَّةَ شقاق و خلاف و عدم انسجام .. فليس بممنوع زواج فقيرة من أمير و غنية من عامل بسيط .. إذا وجد الدين و الخلق وتم القبول فإن رأينا أن ذلك يستدعي النزاع فالتوقف أولى .. و من كان عنده في دينه تنطّع و يرى الدين حبساً للمرأة في البيت فلا تخرج إلا إلى القبر! و تزوج امرأة تدَيّنها بسيط فطري غير معقد سمْحٌ فلا يتوقع نجاح هذا الزواج .. ومن كانت طاعته لله وفق الحديث الشريف: (يسّروا و لا تعسّروا و بشّروا و لا تنفروا)9 و اقترن بامرأة أفهمتها مدرستها أن الرجل لا يكون تقياً إلا إن قام الليل نفلاً و صام النهار تطوعاً و كان له ورد فيه ذكر الله مائة ألف مرة مما لم يأمر به الله و لا رسوله و لا الصحابة ولا التابعين ؛ فلا ترى المرأة في زوجها إلا قليل دين ، وإن كان يجمع الجهاد من أطرافه بالسعي الشديد على أبوين شيخين أو أطفالٍ يغذوهم أو نفسٍ يعفها عن الحرام كما ورد في الحديث فلا تأبه لكل ذلك ما لم تره نسخة من تعاليم مدرستها الفاضلة . أقول : هذا الزواج لا يُظن فيه الاستمرار منذ البداية و بدايته غلطٌ في الفهم و الفقه و الإدراك و مآله الانفصال كما رأينا وسمعنا ونسمع و نرى كل يوم .و الحقّ يقال أن انحراف الناس في أمور زواجهم أصبح مما لا حد له ؛ فأعراف أهل الجاهلية تسود قطاعاتٍ واسعة من الناس ، وأمور المباهاة و التنافس في حطام الدنيا والتكاثر وحبّ مَحمَدةِ الخلق ولو بالباطل قد