أزمة فكر أم أخلاق
الحمد لله و الصلاة و السلام على نبيه و مصطفاه ، و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و نشهد أن محمداً عبد الله و رسوله جاء بالهدى ودين الحق ليكون للعالمين نذيراً . عباد الله اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون ؛ من أصلح ما بينه و ما بين الله يكفيه الله ما بينه و ما بين الناس ؛ ذلك بأن الله يقضي على الناس و لا يقضون عليه و يملك من الناس و لا يملكون منه ، و لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . أما بعد : فإنَّ أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه و آله وسلم و إنَّ من كلامه تعالى قوله :
( إنَّا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرضِ و الجبالِ فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسانُ إنهُ كان ظلوماً جهولا)1 . و الأمانة فسرت كما يذكرُ العلامةُ القاسميُّ بالطاعةِ أو بالفرائض و الحدودِ و الدينِ أو بمعرفتهِ تعالى . قال الإمام ابن كثيرٍ و كلُّ هذه الأقوالِ لا تَنَافيَ بينها ؛ بل هي متفقةٌ و راجعةٌ إلى أنها التكليفُ و قبول الأوامرِ و النواهي ، وحملها الإنسان بسبب استعدادهِ الفطري فإن تَرَكَ أداءَ الأمانةِ كان ظلوماً ، و إن ترك أسباب سعادتهِ مع التمكن منها كان جهولاً ؛ كما يفهم من كلام الإمام الزمخشري .و أصبحت تَبِعَةُ الأمانةِ عظيمةً عندما جعل الله في الأرض خليفةً ؛ فخلق آدم ثم ورثتِ البشريةُ مهمةَ الاستخلافِ و حُمِّلتِ الأمانة . و كيفما تحرك المهتدون فإنما يدندنون حول الاستخلاف و الأمانة و هي راية حملتها يد النبوة من لدنِّ آدم عليه السلام و انتهاء بخاتم الأنبياء و الرسل صلى الله عليه و آله وسلم ؛ لتستلم الأمة المسلمة هذه المسؤولية العظمى . قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيداً )2 و تربية هذه الأمة الراشدةِ صاحبةُ الوسطيةِ عمليةٌ طويلةٌ شاملةٌ تتعرض لِمُعَوِّقاتٍ كثيرة ، هذه الأمة حاملة رسالةٍ قرآنيةٍ ربانية إلى كل شعوب الأرض ، وكما يقول أحد المربين : "قد يكون المطلوبُ اليومَ بإلحاحٍ التأكيد على أهمية تشكيل شخصيةِ المسلم المعاصر الذي يجسد القيم الإسلامية في واقع عملي و يبرهن على أنَّ خلود الرسالة الخاتمة و صلاحيتها لكل زمانٍ و مكان إنما يتمثل في قدرتها على إنجابِ الأنموذج المطلوبِ و تقديم الحلول الحضارية لمشكلات البشرية الكبرى ، وأنَّ معجزة الرسالة إنِّما هي معجزةٌ تكليفيةٌ تتحقق من خلال إرادات البشر و قدراتهم و تسير طبقاً للسنن و القوانين و الأسباب الجارية في الكون و النفس و الآفاق التي قدرها الله و سخرها للإنسان "3 . قال تعالى ( سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )4. وتكاد تكون أزمتنا الأساسية واحدة في حقيقتها و إن اختلفت مظاهرها و تعددت آثارها من موقع لآخر ذلك أننا لا نعترف بمسؤوليتنا عما لحق بنا و لا نواجه ما أصابنا بجرأة و شجاعة لنكتشف مواطن التقصير و نحددَ مواطن القصور لنستدركها و إنما لا نزال نلقي التبعة على الآخرين الذين هم دائماً سببُ بلائنا ومصائبنا جميعاً لنعفي أنفسنا من المسؤولية ؛ دون أن ندرك أننا بذلك نلغي أنفسنا و أهليتنا للبقاء ، و عندما نَعْرِض لمظاهر و أبعاد الأطواق أو المؤامرات أو الخطط الخارجية حولنا يكون عندنا الكثير لنقوله أما حين بقوم بعملية مراجعة بسيطة لما قدمناه أو ما يمكن أن نقدمه في هذا المجال أو ذاك فتخفت أصواتنا وتتقزم هاماتنا و تتضاءل حصيلتنا حتى تكاد تعادل صفراً أو ما يعادل الصفر ، و ما أسهل أن نصنع المسوغات لما نفعل و نعايره بمعايير غريبة و مضحكة دون أن ندري أننا نسويه و نقايسه بالعدم ، إن الخطاب الإسلامي المعاصر و الذي يطمح إلى حمل أمانة الاستخلاف في الأرض لم يتمكن بعد من استيعاب أقرب الناس إليه علاوة عن كسب الآخرين بسبب قصور نظرته ، و بدل فتح مصاريع الأبواب المغلقة ازدادت الأقفال ، و فكر الهداية انكمش أحياناً ليتوه الناس في مزالق أفكار شاردة ؛ دُفع الكثيرون إليها لقصور الخطاب الإسلامي الذي لا بد أنه قادر على النماء و التجدد الدائم و الاستيعاب للأفراد و المجتمعات و الثقافات و الأنماط المجتمعية المتباينة و ليس هدفه حصر الأمور في أودية اجتهاداتٍ مهما حلقت فإنها تبقى وليدة الاجتهاد البشري و لا تلغي بحال إمتدادات الرسالة القائمة على نصوص وحي رب الأرض والسماء ، وصدق الله تعالى إذ يقول : ( فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليما )5. وقد يكون من المشكلات الأساسية التي تعاني منها العملية التربوية الإسلامية في جهدها لبناء الإنسان و الأمة الراشدة التي تنهض بأمانة الاستخلاف ، عقلية التبعيض و التفكك أو النظرات الجزئية التي تفتقر إلى الشمولية و التوازن و ضبط النِّسب في كل أمر من أمور الحياة لأنها في نهاية المطاف تمثل النظرة الأحادية الضيقة التي تتوهم أنها اكتشفت الحقيقة المطلقة كلها واستحوذت عليها من كل جوانبها فلذلك تتحزب لها و تنغلق عليها و تلغي حق غيرها في النظر و تلغي أيضاً حصتها في النمو و الامتداد الذاتي كما تحول دون الإفادة من جهود الآخرين و تسبب النظرات الجزئية المتحزبة و النظرات التبعيضية الضيقة ؛ تسبب أحياناً الفشل و الإحباط ثم التخاذل الفكري و الشلل التربوي و الانتحار الروحي و الهروب أحياناً من عالم الواقع و الحقيقة إلى عوالم الوهم و الخرافة و العطالة و انطفاء الفاعلية فهي طوراً تقدم علماً بلا تربية و طوراً تقدم تربية من دون ضوابط شرعية لسلوك الإنسان . و لوحظ أن هناك تياران يحاولان تحديد المشكلة أهي مشكلة أخلاق أم مشكلة أفكار ؛ أي : هل أن المسلمين يعرفون الأمور الصحيحة و مشكلتهم إنما هي أمر تربويٌ و حَملٌ على ما يعرفون ؟ أم أن المشكلة ليست مشكلة التزام بما يعرفون فهم ملتزمون و لكن ما يعرفونه فيه أغلاط كثيرة تحتاج إلى صياغة جديدة ؛ أي بناء عالم الأفكار الصحيحة بدل عالم الأفكار المغلوطة التي يعيشون خلالها. إنني أعتقد أنه لا يمكن الفصل بين المشكلة الفكرية والتربوية تماماً رغم و جود حالات تتباين فيها حصص كلٍّ منهما و إن كنت أعتقد أيضاً أن للمشكلة الفكرية حصةٌ هائلة ، فعالم الأفكار هو المؤثر و الموجه و المتحكم دائماً بعالم الأشخاص و الأشياء ، وحركة الإنسان و مسالكه المتنوعة هي ثمرةٌ لقناعاته و مواريثه الفكرية و تشكيله الثقافي ، فالواقع الذي عليه الناس ما هو إلا الإفراز الطبيعي و الوجه العملي المجسد لمنظومة الفكر التي تحركه و تختفي وراءه ، لذلك فأية محاولة للنهوض و الإصلاح تتجاوز الأزمة