وشكاية ، ولخرج حب الدنيا من قلبها إلى لسانها ، ولأهلكت وأتعبت زوجها كل يوم وهي تقول له : أبنت رجل مثل أبي بكر تعيش في مثل هذه الظروف ، وفي أقل الأحوال تجعل حياته جحيماً لا يطاق حتى تتعبه فيركب الصعب والذلول لإرضاء شهواتها ونزواتها.
ما كانت أسماء هكذا ؛ أسماء بنت الصديق ؛ أسماء المؤتمنة على سر الهجرة ؛ أسماء أخت الجهاد والإقدام والبطولة والفداء ؛ أسماء صاحبة فكر الدولة والدعوة والأمة والحضارة.
ما كانت يوماً تحس أنها تحمل العقيدة لأن زوجها أو أباها يحملانها ؛ كانت العقيدة إيماناً يتدفق من قلبها المُلَوَّع من جاهلية الأرض التي آن لها أن توئد لترفع راية التوحيد.
وفي يوم من الأيام أتتها أمها وكانت مشركة ، وهشت أسماء لأمها ، ومن لا يلقى بنفسه في أحضان أمه إذا رآها بعد طول فراق ويفتح قلبه ويدع دموعه تحكي ما في قلبه ، وتراخت ذراعا أسماء ووقفت الكلمات على لسانها ؛ فالعقيدة فوق كل شيء ، وأرسلت بأختها عائشة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن اسأليه: أأصل أمي وهي مشركة؟ لقد خشيت أن يخدش التزامها ، أما قال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد اللهَ ورسولَه ...)9، وعادت عائشة بالجواب أن صِلي أمك وأكرميها.
إن العقيدة في نفس المؤمن فوق كل شيء ولكن الإسلام ما كان يوماً قطاعاً للأرحام بل وصَّالاً لها ولقد كانت قريش تؤذي المؤمنين في مكة وتسومهم العذاب ثم قويت شوكة المسلمين وأصبحت لهم دولتهم ، وأصابت قريشاً مجاعة ؛ فما كان من نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن بعث لهم ما يعينهم في مجاعتهم ، وصدق تعالى إذ يقول: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)10.
ووراء المعلم الهادي مشت الأمة فسعدت وعاشت في سكينة وبر وتراحم وخير.
فهمت أسماء رضي الله عنها التوازن والشمول في العقيدة فأعطت كلاً حقه ؛ وقت الرحمة تلزمه الرحمة ، ووقت البأس يلزمه البأس ، ومن أوقات البأس فتنة وقعت في أيام سعيد بن العاص واضطرب حبل الأمن فيها ، فكان على جنب أسماء خنجر دافعت به عن نفسها وبيتها ، وأدبت كل معتد فجور ؛ أما في اليرموك ، وما أدراك ما اليرموك؟ فقد صُمَّتِ الآذان من صوت تكسر السيوف وتقصف الدروع ، وكانت كتائب الموت تغير مثل الصواعق الهائلة وقد أصبحت الأرض لزجة لكثرة ما سقيت من الدماء ، وانتصبت أسماء مثل لبوءة ضارية فشاركت في القتال تدافع عن دينها وعقيدتها ، أما قال تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) 11.
كانت حياة أسماء كلُّها جهاداً في سبيل الله ، واحتملت كل ذلك ، وصبرت صبراً قليلٌ من يحتمله ، وزوجها كان من أفقر الناس ، هاجر ولا مال له ولا عقار ؛ ما كان له إلا فرس كانت أسماء تعلفه وتسير تجمع النوى من الأرض وتدقها وكانت في غاية التفهم لنفسية زوجها ؛ رآها عليه الصلاة والسلام وقد حملت النوى فأشفق عليها وأناخ راحلته لتركب فتذكرت غيرة الزبير فأبت واستحيت من الرجال! ما رضيت أن تركب مع رسول الله الطاهر المطهر المعصوم خشية أن لا يعجب زوجها ذلك ؛ فقال الزبير: والله لحملك النوى أشد علي من ركوبك معه. وصبرت أسماء وصبر زوجها ثم أخذ يعمل ويتاجر كما فعل الصحابة الذين قدموا ولا شيء معهم ففتح الله عليهم ورزقهم من الخيرات.
صبرت أسماء ، ولمَّا مات زوجها كانت تركته من التجارة خمسة ملايين ومائتي ألف درهم ما جمعها من حرام ولا نفوذ ولا جاه وما قعدت به عن علم ولا جهاد ، بل علَّم الدنيا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجال مال وتقى ، أشداء في النهار رهبان رقاق في الليل ؛ فلقد تعلموا من نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم أن (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير..)12، ورغم كل المال الذي فاض فما بطر الزبير ولا أسماء وكان له ألف خادم يعملون لحسابه ، ولكنه كان ينفق باليمين والشمال ، وما جبيت من الزبير زكاة قط! ما كان يجمع ليدخر بل يجمع وينفق ، لأن عقيدته : (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خُلَّةٌ ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون)13.
وعاشت أسماء مائة عامٍ ما سقط لها سنٌّ ولم يُنكر لها عقل ؛ وفي آخر عمرها كانت البيعة الشرعية معقودة لابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في الحجاز وفارس وخراسان ثم انقادت له مصر ؛ واجتمع المسلمون عليه إلا أمراء في الشام كانوا أدهى منه وأعلم بالسياسة ؛ فحركوا العوام وبطشوا حتى تقلص ملكه ثم حاصروه في بيت الله الحرام ، فتحصن بالبيت فنصبوا المنجنيق ينهال بالصخور وعُرض عليه الفرار فأبى وما رضي أن تختم حياته الحافلة بالجهاد بموقف جبان , وذهب عبد الله يستشير أمه أسماء ... العجوز ذات المائة عامٍ ؛ كفيفة البصر! وقال لها: يا أم قد خذلني الناس حتى أهلي وولدي ولم يبق لي أمل والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فبماذا تشيرين؟ ووقف قلب الأم يوازن الأمور مع البيعة الشرعية والحق الواضح وكادت تغلبها عاطفتها وتذكرت ولادته في قباء ومرت بها أطياف الجاهلية وبقايا الطواغيت المتفرعنين وتفجرت في قلبها معاني الثبات على المبدأ والصبر على المحنة ؛ الموت أشرف من أن تدفع الأمة بشرعيتها إلى الظالمين.
إن الظالم يستطيع أن يسيطر ولكنه لا يستطيع أن يكون شرعي الحكم مهما طال به الزمن والأمة الغافلة فقط هي التي تستسلم ؛ أما أمة العقيدة فلا تنحني.
مر كل ذلك بأسماء وخرج القرار الحاسم: (لا يُتَلاعَبنَّ بك ... عشت كريماً فمت كريماً) لقد حكمت على ابنها بالإعدام ، وبيد من؟ يد الحجاج ؛ كانت تنتزع مع كل حرف من قرارها قطعة من روحها ، لقد حكمت على نفسها أيضاً بالإعدام.
وضمت الأم العمياء إليها ابنها ... والابن يبقى ابناً مهما كَبُرَ سناً أو مركزاً ... ضمته تتحسسه وتشمه وتمده بدفء الأمومة ، وخرج الفارس العظيم بعد وداع أمه الوداع الأخير ، فلما لم تعد تسمع خطواته ...خرجت دموع الأم غزيرة بعد تجلد فسالت على وجناتها.
وصُلب صحابي رسول الله في أمة سكرت برغبة المال أو رهبة السيف أو بريق التاج ، وخرجت أسماء تتحسس ابنها المصلوب ثم قالت : أما آن لهذا الفارس أن يترجل ؛ فقال لها الظالم الذي صلبه : المنافق! قالت: والله ما كان منافقاً وقد كان صواماً قواماً ؛ وردت عليه رداً بليغاً.