الأخوة : القاعدة المعنوية في بناء الدولة المسلمة
الحمد لله (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم)1 ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم)2 ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود)3.
عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أما بعد : فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن من هديه صلى الله عليه وآله وسلم قوله في الحديث الصحيح : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه)4 صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ذكر بعض مؤرخي السيرة النبوية أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إنما تمت خلال بناء المسجد النبوي ؛ فاستجمعت دولة الإسلام أول مقوماتها المادية وهي المسجد ، وأول مقوماتها المعنوية وهي المؤاخاة في ظلال دوحة وارفة من الإيمان والصدق والإخلاص ، وقد أجمع المؤرخون على أن المؤاخاة وقعت في السنة الأولى للهجرة ، ويحدد ابن عبد البر وقوعها بخمسة أشهر بعد الهجرة ؛ أي في رمضان ؛ فأي شهر عظيم هو رمضان! شهر العبادة وشهر العقيدة ؛ شهر الانتصار وشهر الشهادة ؛ شهر البناء والتأسيس ؛ بناء المسجد وبناء النفوس وتأسيس الأمة وتأسيس الدولة.
والمؤاخاة يا اخوة الإيمان لها فقه عظيم وليست أمرا عفويا يصمد اليه الناس من دون معرفة فقهه ؛ فمن فِقهِها قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)5 وقوله : (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا ؛ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله ؛ التقوى هاهنا ؛ التقوى هاهنا ؛ التقوى هاهنا ، ويشير إلى صدره الشريف ؛ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ؛ كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)6 وهذا الحديث الشريف وحده لو أنفقت الأمة المسلمة كلها شطرا من عمرها في فقهه لكان قليلا ؛ فإن آثار ضياعه سببت خرابا هائلا ، ولو فكر الناس فيه لعلموا أن كثيرا من مصائبهم سببها ضياع فقه هذا الحديث ؛ فكم مسلم يظلم مسلما ، وكم مسلم يحقر مسلما ، وكم مسلم يخذل مسلما وكم مسلم يحسد أو يبغض أو يمكر أو يؤذي مسلما ، وكم مسلم لقلة دينه سبب سفك دم أو سلب مال أو ثلم عرض لمسلم ، وكم بيوت عشعشت فيها كل آفات الذين لا يؤمنون من الغيبة والنميمة والكذب ، وكم من مصائب ضاع فيها فقه المتطلبات الإيمانية فأهلكت ودمرت ، ورحم الله الإمام عبد القادر الجيلاني وهو يقول: يا غلام وعظي على ظاهرك ووعظك على باطنك ، ورحم الله ابن عطاء الله وهو يقول : الثوب موضع نظر الخلق والقلب موضع نظر الخالق فإياك ثم إياك أن يكون ثوبك نظيفا وقلبك نجسا.
من يصلي في الصف الأول ويأكل أموال الناس فلم يأت بشيء فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له! من يصلي التراويح ركعة أو عشرين ألفا ثم هو لا يبالي من أين مطعمه ومشربه لا يخرج بشيء ؛ من يصوم ويقوم ثم هو رأس من رؤوس الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل وعمل الزور وقوله لا يخرج بشيء ؛ ومن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب ، ورب تال للقرآن والقرآن يلعنه ، ومن تغطي رأسها بحجاب من قماش وقد هتكت سترها مع ربها بأكل لحوم الناس والمشي بالغيبة والنميمة والكذب ، وربما بالإفساد بين الرجل وزوجه ، وربما بتسبيب العداوات وتأجيج الخصومات وإطاعة إبليس وحزبه ؛ من فعلت مثل هذا فلتتب إلى الله فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
وصدق الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبك بين أصابعه 7 ، فيامن تهدمون في بناء المؤمنين : توبوا إلى الله ؛ يامن تفتحون الثغرات اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ؛ يامن ضاقت صدوركم عن أمة لا إله إلا الله واتبعتم شهواتكم وأمراض نفوسكم .. إن زلزلة الساعة شيء عظيم.
روى الترمذي والبيهقي والبزار باسناد جيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء هي الحالقة! لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ؛ والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ؛ أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم ؛ أفشوا السلام بينكم)8 فيا مؤمن ويا مؤمنة : قسم يقسمه نبيكم وما كان إلا صادقا مصدقا صلى الله عليه وآله وسلم : (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا) فأين يذهب الإيمان والحب في الله فيكم .
أول الطريق لفتح القلوب إفشاء السلام ، وهذا الهجران بين الناس إنما هو من عمل الشيطان ، وفي الصحيح عن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم قال : (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام)9 وأخرج أبو داود عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)10.
والظلم يا أمة محمد حرام ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عن ربه في الحديث : (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)11؛ فالظلم حرام ولو للكافر أو الفاسق والظلم حرام ولو للحيوان والبهائم .