زوراً بالنامي] سبَّب أنَّ قليلاً من الأفكار التي نملكها ستصمد في وجه النقد ولو كان سطحياً ، وهناك دول ومؤسسات وجماعات لا ترضى عن التفكير ولا إعمال العقل ، وتنتقل طوال عمرها من إخفاق إلى إخفاق دون أن يكون ذلك حافزاً لها نحو أية وقفة تأمل .. لعلها تظن أنها تملك مناعة خاصة ضد آلام التجربة الفاشلة ..
كنت في عقد قران وتعرفت على رجل يحمل شهاداتٍ و اختصاصاً عالياً ، وتطرق الحديث إلى خطبة الجمعة وفوجئت به يقول : أنا أصلي ولكن ليس صلاة الجمعة .. حتى لو كنت غير مسافر أو مريض .. سألته عن السبب؟ فقال لي : لست ملزماً ولا يكلفني الله بالاستماع إلى بعض التفاهات التي يلقيها البعض بسبب ضحالتهم الشديدة! ورغم عدم موافقتي على تركه لصلاة الجمعة إلا أنني أخبرت بعض الناس بكلامه ؛ فكان من بعضهم كلام قاس بحقه وربما قال : [بالناقص] .. أو رجل محروم من الخير ، و الحق أننا لا ننتقد أنفسنا فنقع في أخطاء فادحة ، ولعل بعضها اغترار بعض الدعاة و الخطباء بامتلاء المساجد و أنا أقول : إنَّ نسبة من يصلي الجمعة اليوم أقل ممن كان يصليها قبل سنوات ..صحيح أن عدد المساجد قد ازداد ، ولكن الصحيح أن هناك زيادة في عدد السكان .. و اغترارنا بعينات دائمة تحضر في مساجدنا لا يجوز أن يغلق أعيننا عن عينات وشرائح واسعة جلّها من المثقفين الأكاديميين و ذوي الاختصاصات العالية ممن لا يجد لنفسه مكانا في بيت الله يحقق له حداً أدنى من الفائدة وزيادة العلم التي يرجوها .. نحن لاننقُدُ أنفسنا ولا نقبل النقد من الآخرين .. خطيب مسجد كان يتفاخر بأنه لا يعرف ماذا سيتكلم حتى يصعد المنبر ؛ خاطبه بعض المصلين وببالغ الأدب فانفجر في وجوههم بطريقة ستحرّم على أي واحد منهم أن يأتي بنصيحة لأحد يوماً ما و مهما كان العيب الموجود .
إن الظلم و الديكتاتورية ليس شيئاً يقوم به الحكام بل شئ يصنعه الناس ببعضهم . واحترام مقام العالم لا يعني أبداً التغاضي عن جريمة إضاعة الوقت لآلاف العقول التي تأتي طائعة تنشد الفائدة فلا تخرج إلا بأقل القليل , لقد علمنا المربي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم كيف يكون البحث عن الحق والصواب ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( إنما أنا بشر و إنكم تختصمون إلي و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع , فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار ) 11. فهل هناك موضوعية و نقد داخلي أعظم من هذا ؟
ليس من الظواهر السارة أن ترى بعض من يدرسون العلوم الشرعية لا يكاد أحدهم يتعلم شيئاً يسيراً حتى يبدأ بالتعالي على الناس و الغرور يملأ عطفيه ، وربما كان في مجلس فدخل من هو في سن أبيه وجده يحمل له الضيافة فينظر إليه نظر سيد إلى خادم , و ربما ظنَّ نفسه أبا حنيفةَ أو شافعيَ زمانه و نظر إلى الناس كما ينظر نظيف الثياب إلى قبيلة من الذباب تقترب منه .. وما كان الأئمة رضي الله عنهم ؛ بل تعلمنا من سيرهم أنهم كلما علا كعبهم في العلم ازدادوا تواضعاً وقد قال الشافعي رحمه الله : "كلما ازددت علماً ازددت معرفة بجهلي" وكان الجويني الملقب بإمام الحرمين أستاذ الغزالي يذهب من مجلسه فيقعد في مجالس طلابه يبغي العلم الذي ينقصه منهم .. وجاء قوم من مكان بعيد يريدون زيارة مولانا الشيخ محمد إلياس و جلسوا مع عشرات من الضيوف ينتظرون ؛ ودخل شيخ مسن يحمل "صينية" عليها أكواب الشاي فطاف بها عليهم ثم جلس ؛ ثم سأل بعضُهم : متى سيأتي الشيخ؟ وإذا بحامل الصينية هو الشيخ!! يزرع التواضع في قلبه وفي قلب تلامذته التزاماً بما روي من الهدى النبوي : ( سيد القوم خادمهم )12 .
واجبنا احترام العالم و واجب العالم أن يتواضع . إن احترام العلماء والدعاة والصالحين ، والإقبال عليهم يوهب ولا يطلب والمخلص لا يلحقه! ترى كم من التواضع نحتاج حتى نهذب نفوسنا ، وكم من الإخلاص نحتاج حتى نَنْقُد أنفسنا .. الأمر يحتاج إلى مجاهدة طويلة ، وكلنا يتصوره سهلاً وما هو بالسهل و ليجرب أحدنا أن ينقد نفسه فإذا ظفر بشيء أساء به إلى الآخرين اعتذر منهم .. ( و لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) 13.
القانون الثالث : من الشعور بالمسؤولية تُولد الشخصية :
يقول الرافعي رحمه الله : " إن لم يكن لك أثر في هذا الوجود فأنت زائد على هذا الوجود " و الناس جميعاً لديها طاقات مخبوءة وخصائص فذة ربما تبقى كامنة في الفرد حتى الممات ؛ دون أن تكتشف ، وسبب ذلك عدم إتاحة الفرصة لها .. إحدى المعادلات السهلة الصعبة : شكوى الآباء من ترهل نفوس أولادهم و ضحالة تفكيرهم وقليلون هم الذين يعترفون بأنهم السبب في ذلك ، فالتربية الطويلة أمر لا يقوم به الكثيرون والتعامل مع الابن و الابنة على أنهم أطفال سيبقيهم أطفالاً مهما بلغوا من العمر ، ولن تتحرك طاقاتهم ليأخذوا المواقع المناسبة لهم ..
هذه الطريقة في التفكير غير سليمة ، والواجب أن نمنح حرية الحركة لمن تحت أيدينا وأن ندربهم على تحمل المسؤوليات والمهمات مع الرقابة البعيدة والإرشاد السليم ولا ريب أن هناك أشخاصٌ وربما أممٌ ليست أهلاً لتحمل مسؤوليات خطيرة ولكن هذا ليس بسبب عيب خلقي ولا تشوه جنيني ولكنه بسبب تصور اجتماعي وثقافي ، وبسبب الضغوط الهائلة التي يتعرض لها الناس والتي ربما قتلت فيهم الإبداع و الاجتهاد وبعثت فيهم حب السكوت و إيثار السلامة حتى فيما لا خطر فيه ..
و قد أرشد القرآن الكريم صراحة إلى تحمل المسؤولية للقيام بها حق القيام : ( قل إني لن يجيرني من الله أحد و لن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغاً من الله و رسالاته ) 14 ، إذا أردت أن تحقق مبدأك فتحرك به و هناك ستكتشف الإيجابيات في نفسك فتزداد تمسكاً بها و تكتشف السلبيات فتنأى عنها .. إن صراخك في وجه ابنك ألف مرة بأن هذا العمل سيئ لا يكفي ؛ مالم تضعه في إطار عملي تجعله يكتشف فيما حوله من الوقائع صدق ما تقول ، والداعية المنظر سيبقى فظَّاً غليظ القلب مالم ينزل إلى الساحة العملية ويجلس على الرصيف مع الناس ليحس بآلامهم و معاناتهم فتنصقل لديه الأساليب ويتحرك في ظلال الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم ( وما أرسلناك إلى رحمة للعالمين ) 15 .